ذات ليلة من نيسان/إبريل عام 1743، وقع الحدث الذي سمّاه عمانوئيل سويدنبورغ "نقطة الانفصال"، بعد أن سبقته الصلوات والأحلام والشكوك والصيام والدأب الفلسفي والعلمي: ثمّة غريبٌ لاحقه بصمت عبر شوارع لندن المظلمة، ثمّ سبقه بغتةً إلى غرفته وأخبره بأنه الربّ، و قد جاءَه كي يوكل إليه بعهد المسيح الحقّ بين البشر الغارقين في الضلال والخطيئة. أخبره الغريب أن روحه سترتحل عبر الجنّة والجحيم، وستكلّم الموتى والشياطين والملائكة.
لا يُحرم أحد من الجنّة في "ديانة" سويدنبورغ، ولا تحلُّ لعنة الجحيم على أحد، فأبوابهما مفتوحة على الدوام، ولا يعلم الذين ماتوا أنهم موتى، فيظلون وقتاً طويلاً محتفظين بصورة وهمية عن أصدقائهم ومحيطهم الذي ألفُوه. عالمُ الشياطين هو بلادُ المستنقعات والكهوف والأكواخ المحترقة والخرائب والمواخير والبراري؛ لا وجوهَ للملعونين أو وجوههم دميمة ومجدوعة لكنهم مقتنعون بجمالهم، وتكمن سعادتهم في استخدام السُّلطة وتبادل الضغائن، فيكّرسون حياتهم للسياسة، أي أنهم يعيشون ليدبّروا المكائد ويكذبوا ويفرضوا إرادتهم على الآخرين، ويتلذّذوا بالكذب والزنا والنهب والاحتيال، وتنعشُهم رائحة الجثث والفضلات. يروي سويدنبورغ كيف سقط شعاعٌ من الضوء الإلهي إلى أعماق الجحيم، فاشتمَّ فيه الملعونون ظلاماً نتناً يشبه رائحة الجراح المتقرّحة. ثمّة سماوات لا تُعدُّ في الجنّة التي رآها سويدنبورغ، وثمّة ملائكة لا تُعدُّ في كلّ سماء، يحكم عالمهم حبٌّ متوقّد لله وأقرانهم. شكلُ السماء - والسمواتِ كلِّها- هو شكل إنسانٍ أو ملاك، والملائكة والشياطين ليسوا نوعين منفصلين عن البشر، لأنهم الموتى الذين اختاروا دخول العالم الملائكي أو الشيطاني. ولا وجود للزمان والمكان في الجنّة إلا ذهنياً، فإذا ما فكّر الإنسان بشخص آخر وجده فوراً إلى جانبه. لا يشكّل الثراءُ ولا السعادةُ ولا الانغماسُ في لذّات الأرض عائقاً أمام دخول الجنّة. كما ليستِ التعاسة ولا الفقرُ ولا التنسُّك بالفضائل، بل سيعجز أصحابُها عن فهم حوارات الملائكة، أي لن يختبروا متعة الجنّة القصوى: التفكير.
الجحيم هو الوجه الآخر للجنّة، وهذا النقيضُ الدقيق ضروري لتوازن الخلق. في كلّ لحظة تمرّ، يصوغ الإنسان خلاصه الأبدي أو لعنته الأبدية، ولهذا لا يعني رعبُ احتضاره شيئاً في النهاية، لأن ثمّة يوم حسابٍ آخر يشهده كلّ إنسان لحظة موته وهو عاقبة حياته كلِّها. لا يفقد البشر خصالهم حين يموتون، فالهولنديون يستمرّون في الاشتغال بالتجارة، ويحتفظ الإنكليز برزانتهم وصمتهم واحترامهم للسُّلطة، ويتاجرُ اليهود بالمجوهرات، ولا يجازف الألمانُ بالإجابة عن أي سؤال يُطرح عليهم ما لم يتمعّنوا في المجلدات الثقيلة التي يحملونها حتى يعثروا على الإجابة الصحيحة.
فنّ الكتابة أيضاً ليس مجهولاً في الجنّة، فكم من مرة تلقى سويدنبورغ رسائل إلهية بدت له مطبوعة أو مكتوبة بخطّ اليد، غير أنه لم يتمكن من فكّ رموزها كلّها لأن الربّ آثر التعليمات الشفوية. وصف سويدنبورغ جنّته بدقة، فألوانها وأشياؤها وأشكالها أشدّ إبهاراً وجمالاً وتعقيداً من مثيلاتها على الأرض، وقد اشترط - إلى جانب التقوى والإيمان - أن تكون الأرواح ذكية كي تدخل الجنّة (وللغاية ذاتها اشترط المتأثر به وليم بليك أن تكون فنانة أيضاً، فالمسيح نفسُه كان فناناً لأنه علّم حواريّيه عبر الحكايات والمجازات). كتب سويدنبورغ باللاتينية، ولم يقتنع بالترجمات اللاتينية للكتاب المقدّس، فدرس الإغريقية والعبرية كي يقرأه بهما. رأى أن كلَّ كلمة فيه تحمل معنى روحياً، فتوصّل إلى عدد هائل من المعاني الخفية فالحجارةُ مثلاً هي الحقائق الطبيعية، والحجارة الكريمة هي الحقائق الروحية. وانتقل من القراءة الرمزية للكتاب المقدّس إلى القراءة الرمزية لكتاب الله الثاني - أي الكون، فالشمسُ في السماء هي انعكاسُ الشمس الروحية، والأشياء الصغرى هي المرايا السرية للأشياء الكبرى. الظروف الخارجية لا تعني شيئاً، الجوهريُّ هو حبُّ الله وإرادة الخير، وكلّ امرأة ورجل أحبّا بعضهما بعضاً على الأرض يصيران في الجنّة ملاكاً واحداً.
سنة 1758، أعلن سويدنبورغ أنه قد شهد يوم الحساب في عالم الأرواح، وبشَّر بكنيسة أخرى هي "القدسُ الجديدة" التي رآها يوحنا، واعتبرها هرطوقيةً تلك الإصلاحاتِ التي شرع بها لوثر. وأضاف إلى تلك "القدس" مدناً خيالية أخرى رآها ومن بينها لندنان خياليتان.
في آذار/مارس 1772، توفي عمانوئيل سويدنبورغ في لندن، وكان في أيامه الأخيرة يرتدي ثوباً مخملياً أسودَ اللون وقديمَ الطراز، ويتناول أحياناً غذاءه المتقشف الذي لم يتبدّل: الخبزَ والحليب والقهوة. وطوال الليل والنهار، كانت خادمته تسمعه يذرع غرفته متحدّثاً إلى ملائكته.