آخر ما كانت الولايات المتحدة تتمناه وتتوقعه، هو أن يأتي أحدهم من تكساس ويخرق أمنها، وأن يفتح الباب على مصراعيه أمام أوسع عملية تجسّس اسرائيلية في بلاد العم سام. جوناثان بولارد فعلها، في أدقّ مرحلة في القرن الـ20، مع اقتراب موت الاتحاد السوفييتي، وبدء تفكّك المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. شعرت واشنطن وقتها بالضيق، وكأن طعنة ما ولجت الى صدرها، فالرهان على بولارد كان عظيماً، الى درجة أن جزءاً كبيراً من عمل الاستخبارات الأميركية لاحقاً، انحصر في تعديل مخططات دفاعية لإلغاء ما سرّبه بولارد الى اسرائيل.
وُلد بولارد في بيئة أميركية يهودية في غالفستون (تكساس) في 1954، ونال اجازة في العلوم السياسية من جامعة ستانفورد. بدأ العمل لمصلحة الاستخبارات البحرية الأميركية في 19 سبتمبر/أيلول 1979، ورُقّي الى رتبة ضابط في مركز مكافحة الارهاب في البحرية الأميركية في 1984، قبل تعيينه اختصاصيّاً في أبحاث التخابر في البحرية في السنة نفسها، وبقي في منصبه حتى إلقاء القبض عليه في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1985، أمام السفارة الاسرائيلية في واشنطن.
بوحي من بيئته اليهودية، اقتنع بولارد بـ"وجوب دفاعه عن اسرائيل"، مما دفعه الى الاجتماع مع أحد ضباط الطيران الحربي الاسرائيلي، أفييم سيلا، وابلاغه رغبته في العمل لصالح إسرائيل، مقابل مبالغ مالية. اختبره سيلا، حين طلب منه نماذج عن وثائق أميركية متعلّقة بأنظمة دفاعية تابعة للجيش الأميركي، ومعروفة بشيفرة "صبّار". لبّى بولارد الطلب، ليُدشّن عهداً من التعاون الوثيق مع تل أبيب، في موازاة انكشاف السريّة الأميركية بالكامل على طاولة رئاسة الأركان العسكرية الاسرائيلية، حيث يتواجد رافائيل ايتان.
ايتان، الذي تعرفه قوى يمينية لبنانية عديدة جيداً، بفعل دوره الكبير أيام الحرب اللبنانية (1975-1990)، عمل مع بولارد، وأمّن له وسيطاً في واشنطن، وهو الملحق العلمي في السفارة الإسرائيلية، جوزيف ياغور. باشر بولارد العمل بدأب وبشكل روتيني مع تل أبيب، وكان يقوم بنقل وثائق أميركية خاصة بالدفاع الأميركي في البحرية، ثلاث مرات أسبوعياً، ويضعها في سيارته ويتوجّه بها الى محطة لغسل السيارات، فينقل الوثائق الى حقيبة. وكل أسبوعين، ينقل الحقيبة الى شقة الموظف في السفارة الاسرائيلية، ايريت إيرب، لتفريغها. وكلّ ذلك تحت رعاية ياغور، الذي كان يُعلم ايتان بكل التفاصيل.
كذلك كان بولارد يلتقي في السبت الأخير من كل شهر مع ياغور، لمراجعة الوثائق التي أحضرها طيلة الشهر. استمرّ نقل بولارد للوثائق، من يناير/كانون الثاني 1985 حتى القاء القبض عليه. وأظهرت التحقيقات التي أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي أن زوجة بولارد الأولى، آن هندرسون، كانت متوّرطة مع زوجها، وخصوصاً حين حاولت تهريب وثائق موجودة في شقتهما في واشنطن، لحظة اعتقال زوجها، وفشلت. طلّق بولارد زوجته، بعد خروجها من السجن.
اتهمت الولايات المتحدة اسرائيل بالتجسّس عليها، لكن الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز أكد أن "قضية بولارد كانت مجرّد انحراف عن سياسة اسرائيلية ثابتة، تمنع التجسس على الولايات المتحدة"، جازماً بأن "العملية تمّت من دون علم أي مسؤول اسرائيلي".
لم تقتنع واشنطن بكلام بيريز، لا بل أظهرت المعطيات اللاحقة أن دولة الاحتلال سعت أكثر من مرة إلى إخراجه من السجن، ومنحته الجنسية الاسرائيلية في 2008، في خطوة تؤكد ضلوعها في عملية التجسس.
ومع أن الحكم الصادر على بولارد في 4 مارس/آذار 1987، بعد محاكمة دامت حوالى 4 أشهر، نصّ على ايداعه السجن مدى الحياة، غير أن القانون الأميركي يسمح في اعادة النظر في اطلاق سراح أي شخص بعد 30 عاماً من سجنه، في حال كان سلوكه جيداً، وهكذا كان سلوك بولارد، مما يمهّد لاحتمال اطلاق سراحه في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2015. لكن اسرائيل ترفض الانتظار لعام ونيّف، وتصرّ على اطلاق سراحه اليوم قبل الغد.