أعرفُ كثيرين يحتجّون على اتجاهاتِ الفلسفة الحديثة، خاصة اتجاهها نحو تنقية اللغة، أو اعتماد المنطق الرياضي في التحليل، للتمييز بين القضايا الفارغة والقضايا ذات المعنى، وبالتالي وضع المناقشات على جادة واحدة، ومنع "زنجويه الحمّال" من التقافز من جادة إلى أخرى، وتمكين "أبو الهذيل العلاف" من ردِّه إلى سنن الطريق.
لم أشعر بالحاجة إلى هذه الاتجاهات الفلسفية قدر ما شعرتُ بها في مواجهة هذا الطوفان الإعلامي الفضائي، وقبله الصحافي بالطبع، أعني تحديداً طوفان المفاهيم والتعابير، الحقيقي والزائف على حد سواء.
وبتبسيط أكثر؛ هذه الجرائم التي تُرتكب بقصدٍ مسبق، وبشفاهٍ باردة وتكرار متعمد، فتلوِّث اللغة والفكر وحواشي الطرقات ذات الاتجاهين؛ الاتجاه نحو الماضي والاتجاه نحو المستقبل.
نعرف أن تكرار المقولة أو المفهوم لا يعني صحتها، فالكثير من الأكاذيب والتلفيقات لم تثبت صحته في أذهان عموم الناس إلا بالتكرار.
ولنأخذ الأمثلة الشارحة؛ عبارة "الجالية اليهودية" المكرورة في الإعلام الصهيوني، ومنه تغلغلت في الإعلام الغربي، فالعربي، خصوصاً على ألسنة الإعلاميين العرب المتربعين في ديوانيات الفضائيات. فهم يتحدثون عن الروس اليهود بوصفهم جالية يهودية في روسيا، والفرنسيين اليهود بوصفهم جالية في فرنسا، والمعنى وراء ذلك أنهم أناسٌ مهاجرون من "وطنهم" الأول، أي فلسطين التي ألصقوا بها الاسم المختلق "إسرائيل".
إذا مضينا بهذا المنطق حتى نهايته، سنكتشف أن الكاثوليك في إيرلندا "جالية" وطنها روما، والبروتستانت "جالية" في إنجلترا وطنها "ألمانيا". وإذا وصلنا إلى المسلمين، اكتملت الملهاة، فالمسلمون في الهند وباكستان "جالية" في القارة الهندية كما يزعم "نيبول"، والإندونيسيون المسلمون "جالية" في إندونيسيا.. وهكذا.
إلى أين يمضي بنا هذا المنطق السخيف الذي قرّرته الصهيونية على الثقافة الغربية والعربية؟ سيمضي من عبث إلى عبث، وسنصل إلى قمة الملهاة حين يتحول سكان الكرة الأرضية إلى غرباء في أوطانهم إذا اعتنقوا اليهودية، وبدأوا يتحدثون عن أسوار "جيريشو" أو "أورشليم"، فوطنهم هو فلسطين بحكم هذا النوع من الدين العجيب الذي يفعل فعل حجر الفلاسفة، فما أن يمس شعباً حتى يحوله إلى شعب من معدن آخر، ويجعله غريباً في وطنه، غريباً عن لغته وتاريخه وأدبه.. إلخ.
وماذا عن مفهوم "الأقليات" في الوطن العربي؟ هذا المفهوم المستورد من عتاة خبراء وزارات المستعمرات؟ سيعني أن أي مجموعة سكانية عربية اختارت عقيدة غير عقيدة الأغلبية، أو حتى مذهباً مختلفاً، ستكون مجموعة غريبة عن وطنها، تفقد هويتها العربية ومواطنتها، وسيقال إن لها أن "تتحرر" من هيمنة الأغلبية العربية!
بالطبع لا وجود لأقليات في الدول الرأسمالية، لأن الرأسمال عمل هناك على إلصاق الناس بشريط لاصق كما يبدو، فكل من يعيش في أمريكا هو "أمريكي"، وكذلك من يعيش في بريطانيا، هو "بريطاني" حتى لو كان اسكوتلندياً استعمر الانكليز وطنه ولغته ومحوا أساطيره.
هذه النوافذ التي توضع بإصرار أمام العقل العربي في أحرج لحظات تاريخه، أو أمام عقل أي شعب يريد التحالف الغربي تمزيق وحدته، آن لها أن تُكشف، وأن يوضع لها حدٌ في صفحات وشاشات لا تعرف كما يبدو رأسها من رجليها.
وآن لنا أن نتفلسف قليلاً بعد عقود من التبعية لفلاسفة العنصرية وأيديولوجيات التضليل، وموظفي شركات السلاح والطاقة والأموال الذين صنعوا لنا حتى الثقوب التي نطل منها على أنفسنا وعلى العالم من حولنا.
اقرأ أيضاً: سياسات تمزيق الشباك