27 أكتوبر 2024
حرافيش ومماليك في مصر..
نشرت مجلة "آخر ساعة" المصرية، في أغسطس/ آب 1951، حديثاً منسوباً إلى شيخ الأزهر حينذاك، عبد المجيد سليم، انتقد فيه حكومة الوفد لضنّها بالمال على الأزهر، وقال: "تقصير وتقتير هنا، وتبذير وإسراف هناك". وكان الملك فاروق يصطاف في مدينة كابري الإيطالية. وبمجرّد قراءته حديث الشيخ، فهم أنّه المقصود بالنقد، فأرسل رسالة عبر اللاسلكي من اليخت الملكي إلى الديوان، أمر فيها بعزل الشيخ عبد المجيد فوراً، ووجدت وزارة مصطفى النحّاس باشا في ذلك فرصة للتخلّص من الشيخ الذي كان على خلاف شديد معها، بسبب عدم استجابتها لمطالبه بتقديم الدعم المالي اللازم للأزهر، فأوعزت إليه أن يستقيل، وبالفعل تقدّم الشيخ باستقالته في 3 سبتمبر/ أيلول 1951 في مشهد تاريخي مؤسف، حسبما ذكر سعيد إسماعيل علي.
تداعت مقولة الشيخ إلى الأذهان، على خلفية مشاهد متتابعة وقعت بصورة شبه متزامنة، في المجال السياسي المصري أخيرا، حملت دلالات سياسية واجتماعية كثيرة وكثيفة، تستحقّ التوقّف والتأمّل، بشأن الانحيازات الاجتماعية للسلطة، فيها قدر كبير من التناقضات، حيث تحظى فئات بالتدليل، في حين تعاني أخرى من التنكيل (!).
المشهد الأول صدور حُكمٍ من محكمة القضاء الإداري، حمل قدراً من الإنصاف لأصحاب المعاشات، عندما قضى بإضافة 80% من العلاوات الخمس الأخيرة إلى معاش الأجر
المُتغيّر. ومن باب تقديرها حاجة أصحاب الحقّ الذين يعانون العوز، وحثّها الجهات التنفيذية على التعجيل بالتنفيذ، أمرت المحكمة بتنفيذ حُكمها بمسودته الأصلية من دون إعلان، مع إلزام جهة الإدارة بالمصروفات، بيْد أن الحكومة هرولت إلى تقديم استشكال أمام محكمة الأمور المستعجلة، للحؤول دون تنفيذ الحُكم، بالمخالفة للدستور الذي ينصّ على اختصاص مجلس الدولة، بصورة حصرية، بالنظر في المنازعات الإدارية، ومنازعات التنفيذ المُتعلِّقة بجميع أحكامه.
المشهد الثاني، عندما أقرّ البرلمان تعديلاً على أحكام القانون رقم 100 لسنة 1987، بشأن تحديد رواتب رئيس مجلس الوزراء، والوزراء، والمحافظين، ونوّابهم، وأعضاء السلك الدبلوماسي، حيث نصّ التعديل على أن يتقاضى شاغلو هذه المناصب راتباً يعادل الحدّ الأقصى من الأجور، فيما يحصلون على معاشات تصل إلى 80% من الراتب، مع عدم خضوع تلك المعاشات لأيّة رسوم أو ضرائب.
وجاءت ثالثة الأثافي بموافقة البرلمان، من حيث المبدأ، على مشروع قانون قدّمته الحكومة لتعديل بعض أحكام القانون رقم 140 لسنة 1956، بشأن إشغال الطرق العامة، والخاص بمنح تصاريح لعربات المأكولات، حيث نصّ التعديل على أداء طالب التصريح، عند تقديم الطلب، رسم إشغال حسب نوع الأماكن، وطبيعة الإشغال والنشاط، لا يقل عن 500 ولا يزيد عن 20 ألف جنيه، مع تخويل السلطات المحلية بتحديد فئات تلك الرسوم.
بضمّ المشاهد السابقة إلى بعضها، تتضّح الرؤية جلياً بشأن الانحيازات الاجتماعية للحكومة، ومدى ترتيب أولوياتها الإنفاقية، والفئات التي تحظى بالعناية والرعاية، على حساب أخرى تعاني من الإهمال والزراية.
منذ اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي في 2016 على إجراءات الإصلاح الاقتصادي، واستجابتها لوصفته (أو بالأدق شروطه التي تهدف إلى إضفاء الطابع "النيوليبرالي" على الاقتصاد المصري، عبر تقليص دور الدولة، وتعزيز حرية السوق، وتمهيد الطريق أمام الشركات الدولية الكبرى، وتمكينها من الهيمنة على وسائل الإنتاج، والتحكّم في مقاليد الاقتصاد الوطني) عبر قرارات 3 نوفمبر بتعويم الجنيه، وتقليص دعم المحروقات بصورة تدريجية، تنتهي بإلغائه كليا في المرحلة الأخيرة. وقد جاءت تلك القرارات مصحوبة بتطبيق ضريبة القيمة المضافة التي زادت الطين بلّة، تردّت الأحوال المعيشية لملايين المصريين الذين باتوا يرزحون تحت خطّ الفقر، وازدادت معاناتهم بشكل كبير.
ودخلت البقية المُتبقية من الطبقة الوسطى في صراع مرير من أجل البقاء، بعدما انصبّت أعباء تلك القرارات على كاهلها في المقام الأول، فضلاً عن الطبقة الدنيا من الفقراء والكادحين التي أوشكت على الانسحاق، تحت وطأة الغلاء الفاحش الذي ضرب السلع الأساسية، وقفز بأسعارها إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، مع حديث رسمي ملأ الفضاء الإعلامي، بمطالبة المواطنين بضرورة الصبر والتحمّل، من أجل جني ثمار ذلك الإصلاح بعد حين (!).
في حين ضنّت الحكومة ببضعة جنيهات قليلة، من شأنها ترطيب جفاف حياة أصحاب المعاشات، المعروفين بالبؤساء وفي رواية أخرى "المُعذَّبون في الأرض" الذين يعانون الأمرّيْن في هذه الأيام، بعدما طحنهم الدهر بكَلكَله، مع تجاهلٍ حكوميٍّ صارخ لمحاولة إنصافهم، أو بالأدّق إنقاذهم ممّا تركهم فريسة سائغة للفقر والمرض، أغدقت الحكومة نفسها بإسرافٍ على فئةٍ من أصحاب الحظوة من ذوي المناصب الرفيعة الذين يحظون بتقدير أدبي ومادي كبير، لا يقتصر على رواتبهم، وإنّما يمتدّ إلى سيلٍ من البدلات والمكافآت التي يتقاضونها، نظير
ترؤّسهم مجالس ولجانا عديدة، فضلاً عن تمتّعهم بامتيازات أخرى "غير مكتوبة"، تعود إلى ثقافةٍ مجتمعيةٍ تقوم على تفضيل أهل السلطة والثروة بمعاملة خاصة دون سواهم، أمّا الأدهى فهو فرض ضريبة باهظة غير مباشرة على عربات المأكولات التي يتحلّق حولها الفقراء من طرفيْها، حيث لا يقدر أصحابها على تكاليف فتح محلّات. وبطبيعة الحال، يكون زبائنها من البسطاء الذين يبحثون عن لُقيْمات تسدّ رمقهم.
دأب الخطاب الرسمي للحكومات المتتابعة لدولة 23 يوليو 1952 على ترديد ذلك التصريح العجيب: "نحن نعمل من أجل محدود الدخل"، وربّما كان هذا صحيحاً في الحقبة الناصرية، إلا أنّ الفجوة بين لسان المقال وواقع الحال أخذت بعدها في الاتساع تدريجياً، حتى وصلت إلى درجة الفصام التامّ، بعدما تحوّل "محدود الدخل" إلى شبه "معدوم الدخل" بفضل السياسات الاقتصادية الحكومية المتراكمة، ما يثير التساؤل بشأن تعريف الحكومة ل"محدود الدخل" المقصود (!).
قال جورج برنارد شو: "الحكومة التي تسرق بيتر لتُعطي باول، دائماً تنتظر الدعم والتأييد من باول"، وهو ما يعني أن السياسات الاقتصادية التي تدعم فئة على حساب أخرى تهدف بالأساس إلى استمالة الأولى واسترضائها، لضمان ولائها وشراء تأييدها.
أمّا كارل ماركس فقد تحدّث عن طبيعة الدولة، وأكّد على أنها ليست محايدة، وليست كياناً مجرّداً من الانحيازات، أو عابراً للطبقات، وأنها تنحاز للطبقة المُسيطرة اقتصادياً، التي تستخدم الآليات الدولتية في حماية الامتيازات التي تحظى بها في مواجهة الطبقات الأخرى، بل وتعمل على مزيد من قمعها، وسلبها ما تبقى لديها من مكاسب قليلة.
تحمل هذه المفارقات قدراً كبيراً من ازدواجية المعايير بشأن معاملة الحكومة مواطنيها، فبدلاً من أن تعاملهم جميعاً على قدم المساواة، يقول واقع الحال بتفرقتها بينهم، إذ ينتمي بعضهم إلى فئة "المماليك" الذين يحظون بالامتيازات، في حين يقبع بعضهم في فئة "الحرافيش" التي تتحمّل التبعات. ففي حين تتفنّن الحكومة في فرض مزيد من الضرائب التي تعَصِر الفقراء، من أجل حَلب القروش القليلة من جيوبهم، في الوقت نفسه لا تجرؤ على مجرّد الاقتراب من الامتيازات الكبيرة التي يحظى بها الأغنياء، بل تزيدها، فضلاً عن تطبيقها برنامج تقشّف صارم على كمّ السفرات الحكومية، وحجم البعثات الدبلوماسية، تضرب به المثل أمام الشعب التي تردّد على مسامعه آناء الليل وأطراف النهار خطاباً مُترعاً بالشكوى من ضيق ذات اليدّ، وعجزها عن تلبية مطالبه (!).
وهنا السؤال: لماذا يجوع الحرافيش المطحونون فقط من أجل الوطن، ويرزحون في بؤسهم، بينما يشبع المماليك المُترَفون حتى التخمة، ويرفلون في نعيمهم؟
تداعت مقولة الشيخ إلى الأذهان، على خلفية مشاهد متتابعة وقعت بصورة شبه متزامنة، في المجال السياسي المصري أخيرا، حملت دلالات سياسية واجتماعية كثيرة وكثيفة، تستحقّ التوقّف والتأمّل، بشأن الانحيازات الاجتماعية للسلطة، فيها قدر كبير من التناقضات، حيث تحظى فئات بالتدليل، في حين تعاني أخرى من التنكيل (!).
المشهد الأول صدور حُكمٍ من محكمة القضاء الإداري، حمل قدراً من الإنصاف لأصحاب المعاشات، عندما قضى بإضافة 80% من العلاوات الخمس الأخيرة إلى معاش الأجر
المشهد الثاني، عندما أقرّ البرلمان تعديلاً على أحكام القانون رقم 100 لسنة 1987، بشأن تحديد رواتب رئيس مجلس الوزراء، والوزراء، والمحافظين، ونوّابهم، وأعضاء السلك الدبلوماسي، حيث نصّ التعديل على أن يتقاضى شاغلو هذه المناصب راتباً يعادل الحدّ الأقصى من الأجور، فيما يحصلون على معاشات تصل إلى 80% من الراتب، مع عدم خضوع تلك المعاشات لأيّة رسوم أو ضرائب.
وجاءت ثالثة الأثافي بموافقة البرلمان، من حيث المبدأ، على مشروع قانون قدّمته الحكومة لتعديل بعض أحكام القانون رقم 140 لسنة 1956، بشأن إشغال الطرق العامة، والخاص بمنح تصاريح لعربات المأكولات، حيث نصّ التعديل على أداء طالب التصريح، عند تقديم الطلب، رسم إشغال حسب نوع الأماكن، وطبيعة الإشغال والنشاط، لا يقل عن 500 ولا يزيد عن 20 ألف جنيه، مع تخويل السلطات المحلية بتحديد فئات تلك الرسوم.
بضمّ المشاهد السابقة إلى بعضها، تتضّح الرؤية جلياً بشأن الانحيازات الاجتماعية للحكومة، ومدى ترتيب أولوياتها الإنفاقية، والفئات التي تحظى بالعناية والرعاية، على حساب أخرى تعاني من الإهمال والزراية.
منذ اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي في 2016 على إجراءات الإصلاح الاقتصادي، واستجابتها لوصفته (أو بالأدق شروطه التي تهدف إلى إضفاء الطابع "النيوليبرالي" على الاقتصاد المصري، عبر تقليص دور الدولة، وتعزيز حرية السوق، وتمهيد الطريق أمام الشركات الدولية الكبرى، وتمكينها من الهيمنة على وسائل الإنتاج، والتحكّم في مقاليد الاقتصاد الوطني) عبر قرارات 3 نوفمبر بتعويم الجنيه، وتقليص دعم المحروقات بصورة تدريجية، تنتهي بإلغائه كليا في المرحلة الأخيرة. وقد جاءت تلك القرارات مصحوبة بتطبيق ضريبة القيمة المضافة التي زادت الطين بلّة، تردّت الأحوال المعيشية لملايين المصريين الذين باتوا يرزحون تحت خطّ الفقر، وازدادت معاناتهم بشكل كبير.
ودخلت البقية المُتبقية من الطبقة الوسطى في صراع مرير من أجل البقاء، بعدما انصبّت أعباء تلك القرارات على كاهلها في المقام الأول، فضلاً عن الطبقة الدنيا من الفقراء والكادحين التي أوشكت على الانسحاق، تحت وطأة الغلاء الفاحش الذي ضرب السلع الأساسية، وقفز بأسعارها إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، مع حديث رسمي ملأ الفضاء الإعلامي، بمطالبة المواطنين بضرورة الصبر والتحمّل، من أجل جني ثمار ذلك الإصلاح بعد حين (!).
في حين ضنّت الحكومة ببضعة جنيهات قليلة، من شأنها ترطيب جفاف حياة أصحاب المعاشات، المعروفين بالبؤساء وفي رواية أخرى "المُعذَّبون في الأرض" الذين يعانون الأمرّيْن في هذه الأيام، بعدما طحنهم الدهر بكَلكَله، مع تجاهلٍ حكوميٍّ صارخ لمحاولة إنصافهم، أو بالأدّق إنقاذهم ممّا تركهم فريسة سائغة للفقر والمرض، أغدقت الحكومة نفسها بإسرافٍ على فئةٍ من أصحاب الحظوة من ذوي المناصب الرفيعة الذين يحظون بتقدير أدبي ومادي كبير، لا يقتصر على رواتبهم، وإنّما يمتدّ إلى سيلٍ من البدلات والمكافآت التي يتقاضونها، نظير
دأب الخطاب الرسمي للحكومات المتتابعة لدولة 23 يوليو 1952 على ترديد ذلك التصريح العجيب: "نحن نعمل من أجل محدود الدخل"، وربّما كان هذا صحيحاً في الحقبة الناصرية، إلا أنّ الفجوة بين لسان المقال وواقع الحال أخذت بعدها في الاتساع تدريجياً، حتى وصلت إلى درجة الفصام التامّ، بعدما تحوّل "محدود الدخل" إلى شبه "معدوم الدخل" بفضل السياسات الاقتصادية الحكومية المتراكمة، ما يثير التساؤل بشأن تعريف الحكومة ل"محدود الدخل" المقصود (!).
قال جورج برنارد شو: "الحكومة التي تسرق بيتر لتُعطي باول، دائماً تنتظر الدعم والتأييد من باول"، وهو ما يعني أن السياسات الاقتصادية التي تدعم فئة على حساب أخرى تهدف بالأساس إلى استمالة الأولى واسترضائها، لضمان ولائها وشراء تأييدها.
أمّا كارل ماركس فقد تحدّث عن طبيعة الدولة، وأكّد على أنها ليست محايدة، وليست كياناً مجرّداً من الانحيازات، أو عابراً للطبقات، وأنها تنحاز للطبقة المُسيطرة اقتصادياً، التي تستخدم الآليات الدولتية في حماية الامتيازات التي تحظى بها في مواجهة الطبقات الأخرى، بل وتعمل على مزيد من قمعها، وسلبها ما تبقى لديها من مكاسب قليلة.
تحمل هذه المفارقات قدراً كبيراً من ازدواجية المعايير بشأن معاملة الحكومة مواطنيها، فبدلاً من أن تعاملهم جميعاً على قدم المساواة، يقول واقع الحال بتفرقتها بينهم، إذ ينتمي بعضهم إلى فئة "المماليك" الذين يحظون بالامتيازات، في حين يقبع بعضهم في فئة "الحرافيش" التي تتحمّل التبعات. ففي حين تتفنّن الحكومة في فرض مزيد من الضرائب التي تعَصِر الفقراء، من أجل حَلب القروش القليلة من جيوبهم، في الوقت نفسه لا تجرؤ على مجرّد الاقتراب من الامتيازات الكبيرة التي يحظى بها الأغنياء، بل تزيدها، فضلاً عن تطبيقها برنامج تقشّف صارم على كمّ السفرات الحكومية، وحجم البعثات الدبلوماسية، تضرب به المثل أمام الشعب التي تردّد على مسامعه آناء الليل وأطراف النهار خطاباً مُترعاً بالشكوى من ضيق ذات اليدّ، وعجزها عن تلبية مطالبه (!).
وهنا السؤال: لماذا يجوع الحرافيش المطحونون فقط من أجل الوطن، ويرزحون في بؤسهم، بينما يشبع المماليك المُترَفون حتى التخمة، ويرفلون في نعيمهم؟