في الوقت الذي كان الجمود العسكري يسيطر على جبهة سرت باستثناء تواصل التحشيد، تسارعت التحركات على عدة خطوط للاعبين رئيسيين في الأزمة الليبية، والتي تصب جميعها في إطار التمسك برفض الحل العسكري. وفي ما يشبه اتفاقهما بخصوص إدلب، أعلنت موسكو وأنقرة مواصلة ممارسة الضغط على أطراف النزاع، بهدف تهيئة الظروف الملائمة لإحلال وقف طويل الأمد ومستدام لإطلاق النار في ليبيا، وهو ما كان محور اللقاء بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والجزائري صبري بوقادوم، حيث تم الاتفاق على إنشاء آلية تنسيق بين الجزائر وموسكو لتوحيد الجهود بشأن المساعدة على التوصل إلى حل للأزمة الليبية.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد دخل بقوة على خط الأزمة، مع تشديده، خلال اتصال هاتفي بولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، أول من أمس، على "أهمية خفض التصعيد في ليبيا من خلال إخراج القوات الأجنبية"، فيما أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري اتصالين هاتفيين مع نظيريه الفرنسي جان إيف لو دريان، والألماني هايكو ماس، للغاية نفسها.
ويأتي الاجتماع بين المسؤولين الأتراك والروس وسط تصاعد التوترات بين القوى الداعمة للطرفين المتقاتلين على الأرض الليبية، واللذين حشدا قوات ضخمة في سرت وحولها. كما يأتي بعد ساعات من موافقة مجلس النواب المصري على نشر قوات خارج البلاد في خطوة هددت بتصعيد الحرب وإدخال القاهرة وأنقرة في مواجهة مباشرة.
واتفق وفدان تركي وروسي، في العاصمة التركية أنقرة، أمس، على المضي قدماً في الجهود من أجل التوصل لوقف دائم لإطلاق النار في ليبيا. وأكدت وزارتا الخارجية الروسية والتركية، في بيان مشترك، أن "الجانبين أكدا خلال المشاورات التزامهما الثابت بسيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها ومقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة"، معربين عن "قناعتهما بأنه لا حل عسكرياً للنزاع في ليبيا، ولا يمكن تسويته إلا من خلال عملية سياسية يقودها الليبيون أنفسهم تحت إشراف الأمم المتحدة".
واتفق الجانبان، خلال "المشاورات التركية - الروسية رفيعة المستوى" حول ليبيا، على "مواصلة الجهود المشتركة، بما يشمل ممارسة الضغط على أطراف النزاع، بهدف تهيئة الظروف الملائمة لإحلال وقف طويل الأمد ومستدام لإطلاق النار في ليبيا، والمساهمة في دفع الحوار السياسي الليبي - الليبي إلى الأمام بالتوافق مع مخرجات مؤتمر برلين (في 19 يناير/ كانون الثاني 2020)، وبالتنسيق مع الأمم المتحدة". كما اتفقا على "دعوة أطراف النزاع إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة بغية ضمان الوصول الإنساني الآمن وتقديم المساعدات العاجلة إلى جميع المحتاجين، والنظر في إنشاء مجموعة عمل روسية - تركية مشتركة بشأن ليبيا وإجراء جولة جديدة من المشاورات في موسكو بأقرب وقت". وذكّر البيان بالمبادرة التي تقدم بها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، في إسطنبول، في 8 يناير الماضي، بهدف خفض التصعيد على الأرض ودفع العملية السياسية إلى الأمام في ليبيا. في موازاة ذلك، أكد مجلس الأمن القومي التركي، أمس، استمرار أنقرة في الوقوف إلى جانب الشعب الليبي ضد أي عدوان.
وفي موسكو، أكد لافروف، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع بوقادوم، أنه "لا يمكن تسوية النزاعات القائمة في الشرق الأوسط، بما فيها أزمتا سورية وليبيا، إلا من خلال المفاوضات وعلى أساس الحلول الوسط وتوازن المصالح".
وأكد بوقادوم أنه اتفق مع لافروف على إلزامية وقف إطلاق النار وتخفيف حدة التوتر للانتقال إلى التسوية السياسية في ليبيا، في حين شدد وزير الخارجية الروسي على أن "وقف إطلاق النار ليس نقطة نهاية، بل يجب أن تتبعه على الفور عملية سياسية تهدف إلى استعادة سيادة ليبيا ووحدة أراضيها، وإعادة بناء كيان الدولة الليبية، التي دمرها العدوان الغربي غير القانوني عام 2011". وأشار لافروف إلى أن "روسيا تولي أهمية كبيرة لدور دول جوار ليبيا في تحقيق التسوية"، مؤكداً "ضرورة انخراط تلك الدول في أي مفاوضات بشأن ليبيا". وأوضح لافروف، رداً على سؤال، أنه "ليست هناك خريطة طريق ثنائية روسية جزائرية بشأن ليبيا، وأن البلدين ملتزمان بتنفيذ مخرجات مؤتمر برلين".
تبحث روسيا وتركيا إنشاء مجموعة عمل مشتركة بشأن ليبيا
من جانبه، أكد بوقادوم على موقف بلاده بأن "لا حل عسكرياً في ليبيا، وأنه لا بد من مفاوضات تشارك فيها كافة الأطراف من أجل إيجاد تسوية سياسية تقوم على احترام سيادة ليبيا ووحدة أراضيها وإرادة شعبها، على أساس مخرجات مؤتمر برلين وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة". وأعلن أن "الجزائر تبقى على مسافة واحدة من جميع الأطراف الليبية، وتعمل على إزالة أي أسباب قد تؤدي إلى تصعيد عسكري في ليبيا". وأعلن بوقادوم أنه اتفق مع لافروف على إحداث آلية للتشاور والتنسيق بشأن ليبيا، للمساهمة في إيجاد الحل المنشود، "في مصلحة الشعب الليبي وبالتنسيق مع جميع مكوناته".
وفي إطار الضغوط لخفض حدة التوتر على الأرض، ذكر البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحث في اتصال هاتفي مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، الثلاثاء الماضي، قضايا الأمن الإقليمي بما في ذلك "أهمية خفض التصعيد في ليبيا من خلال إخراج القوات الأجنبية". وكان ترامب قد أجرى، الإثنين الماضي، اتصالين هاتفيين مماثلين مع كل من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمصري عبد الفتاح السيسي.
وذكرت وزارة الخارجية المصرية في بيان، أمس الأربعاء، أن شكري أجرى اتصالين هاتفيين مع كل من لودريان، وماس، تم خلالهما بحث "تطورات الأوضاع في المشهد الليبي وأهمية العمل نحو الدفع قدماً لتحقيق التسوية السياسية هناك". وأكد شكري "على الأولوية التي يوليها الجانب المصري للعمل على وقف إطلاق النار وللتوصل إلى حل سياسي تفاوضي ليبي ليبي"، مشيراً إلى أن "إعلان القاهرة، الذي يأتي مكملاً لمسار برلين، يهدف لتعزيز فرص تحقيق مثل هذا الحل الذي يحافظ على الدولة الوطنية الليبية ووحدة أراضيها، ويسمح بمواصلة جهود القضاء على الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة حتى ينعم الشعب الليبي الشقيق بالأمن والاستقرار".
وتأتي هذه التطورات بعدما كان وزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، ووكيل وزارة الدفاع صلاح النمروش، قد أنهيا، الثلاثاء، زيارةً إلى أنقرة عقدا خلالها اجتماعات ضمّت وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، ونظيره القطري خالد العطية، ووزير الداخلية المالطي بويرون كاميلاري. وبحسب تقارير إعلامية، فإنّ باشاغا بحث برفقة النمروش مع آكار والعطية المستجدات على الساحة الليبية وسبل تعزيز تعاون ثلاثي في مجالات الدفاع والأمن، والشراكة الاستراتيجية بين البلدان الثلاثة.
وبحسب وكالة الأنباء الليبية، فإن الجانب الليبي ناقش أيضاً في تركيا تنفيذ باقي الخطوات في الاتفاق الأمني الموقع بين الحكومة التركية و"الوفاق"، من دون الإفصاح عن تلك الخطوات، "من أجل الاستعداد لعمل عسكري محتمل قد يفتح الطريق لاسترداد سرت، واستكمال بسط سيطرة حكومة الوفاق على كامل التراب الليبي"، بالإضافة لتذليل "العقبات التي تواجه تطبيق بعض بنود الاتفاقية، والخطوات التي ينبغي القيام بها في إطارها".
لافروف: يجب أن تتبع وقف إطلاق النار عملية سياسية
ولا يبدو أن الشق الآخر من الاتفاقات الموقعة بين طرابلس وأنقرة بعيد عن تلك اللقاءات، فقد احتضنت أنقرة أيضاً لقاءً ثلاثياً آخر جمع آكار بباشاغا وكاميلاري، من دون الإعلان عن مضمونه، لكن استقبال آكار للوزيرين الليبي والمالطي استقبالاً عسكرياً في ساحة وزارة الدفاع التركية، له دلالاته، بحسب الصحافية الليبية نجاح الترهوني، التي ترى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "اللقاءات التي احتضنتها أنقرة تشير إلى ولادة حلف جديد موسع يضم الدوحة وفاليتا، إضافة لأنقرة وطرابلس، في مواجهة تصعيد سياسي وعسكري في الملف الليبي"، معتبرة أن "هذا الحلف الجديد قد يغير كثيراً من الموازين على الصعيدين العسكري والسياسي".
وبحسب مصادر ليبية مقربة من حكومة الوفاق، فإن الجانب الليبي الممثل بباشاغا والنمروش، ناقش جوانب تتعلق بالبنود المشتركة في الاتفاقين البحري والأمني الموقعين بين طرابلس وأنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وإمكانية أن تكون تلك البنود أساساً لعملية عسكرية لاسترداد مدينة سرت. لكن الناشط السياسي الليبي عقيلة الأطرش لا يرى أن أنقرة وطرابلس تبحثان عن مواقع عسكرية جديدة، "فعملية سرت ليست بحاجة لعملية بحرية تنطلق من مواقع من جزيرة مالطا مثلاً، والقواعد الجوية والبرية متاخمة وقريبة من المدينة". واعتبر الأطرش، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الحلف الجديد، في حال تكونه، سيكون له ثقل سياسي وأهمية في التأثير على عواصم كبرى ذات أهمية في الملف الليبي، قائلاً إن "الأزمة الليبية أخيراً انتهت عند حدود سرت عسكرياً، وانتقلت إلى كواليس السياسة".