06 نوفمبر 2024
حرب وكالة مكتملة الأركان
في معرض رده على التدخل العسكري الروسي في سورية، والذي بدا "محرجاً"، بمقدار ما كان "مفاجئاً"، على الرغم من أن واشنطن رصدت، منذ يوليو/تموز الماضي، زيادة ملفتة في حركة النقل العسكري الروسي إلى سورية، صرح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أنه لن يسمح لنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بجره إلى حرب بالوكالة في سورية. بدا هذا الكلام، من جهة، منسجماً مع سلوك أوباما الشخصي تجاه الأزمة السورية منذ بدايتها، فقد أبدى مقاومة شديدة تجاه التدخل، على الرغم من سيل الانتقادات والإهانات التي تلقاها من خصومه داخل الولايات المتحدة وخارجها. لذلك، بدا أوباما، في هذا التصريح، وكأنه يحاول، مع إصراره على عدم تغيير سياساته، الحفاظ على ماء وجهه، مع أن بعضهم يعتقدون أنه لم يعد معنياً حتى بهذا، إلى درجة أنه غدا مثالاً للرجل الذي يبغضه حلفاؤه، ولا يحترمه أعداؤه.
لكن، من جهة ثانية، بدا هذا التصريح غير ذي معنى، لأنه يتناقض مع مبدأ أوباما نفسه في السياسة الخارجية، والذي يقوم على فكرة الانكفاء عن التدخل المباشر، وإنشاء موازين قوى إقليمية وإدارتها، من خلال الصراع السوري، تؤدي إلى استنزاف مستمر للجميع، وتحول دون هيمنة طرف على آخر. يخل التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام السوري بقواعد اللعبة التي تديرها واشنطن، منذ نحو خمس سنوات، بين القوى الكبرى المنخرطة في الصراع الإقليمي، وهي تركيا والسعودية وإيران، ويصب في مصلحة ترجيح كفة طرف على آخر، وهو أمر لا تملك واشنطن قدرة التغاضي عنه. من هذا الباب، لم يأخذ المطلعون على حقيقة التفكير الأميركي كلام أوباما على محمل الجد، على غرار أكثر ما يقوله بشأن سورية، أو ما ظل يقوله منذ خمس سنوات. فوق ذلك، بدا واضحاً أن أوباما فقد زمام المبادرة في المنطقة، ولم يعد يملك مفاتيح السيطرة على الأحداث فيها، بعد أن أدار ظهره لها، بل أصبح يعمل بمنطق ردود الأفعال على سياسات الفاعلين الآخرين فيها، والتي أخذت تجرفه نحو تبني مواقف لا يرغب بها. لذلك، نجده، وهو الذي قرر الخروج من العراق بأي ثمن عام 2011، يعود إليه إثر سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة عام 2014، وله اليوم فيه قوة عسكرية من خمسة آلاف عنصر، على الرغم من أن أوباما يصر على أنها قوة غير قتالية، وأنها هناك لأغراض تدريبية واستشارية فقط. ليس هذا فحسب، بل انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن.
واقع الأمر أن واشنطن قررت، على الفور، الرد على التدخل العسكري الروسي المباشر الذي يخلّ بموازين القوى على الأرض في سورية، إذ أفشلت صواريخ "تاو" الأميركية التي تملكها فصائل المعارضة السورية المحاولات اليائسة لقوات النظام، المدعومة بغطاء جوي روسي، لتغيير المشهد الميداني في مناطق ريف حماة واللاذقية. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست في تقريرٍ، نشرته يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن دفعات جديدة من أجيال أكثر تطوراً من هذه الصواريخ المضادة للدروع في طريقها الآن إلى فصائل معارضة سورية.
ليس هذا فحسب، بل يبدو كأن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تتجهان نحو إنشاء قوات برية
حليفة على الأرض السورية، تكون بمثابة ذراع ضارب لكل منهما في هذه المواجهة التي تستهدف، من جهة، تسجيل نقاط في الحرب على تنظيم الدولة. وتسعى، من جهة أخرى، إلى منع سقوط النظام السوري أو انتصار المعارضة. وفي هذا الصدد، بدأت القيادة العسكرية الروسية في سورية عملية إعادة تقييم وتنظيم لبقايا جيش النظام والمليشيات المرتبطة به، في إطار توجه لحصر كل القرارات العسكرية والأمنية بها، وهي تدفع لذلك نحو حل المليشيات المحلية التي أنشأها رجال أعمال، أو مسؤولون داخل النظام، ودمج من يرغب منها بالجيش النظامي. وفيما يتعلق بالمليشيات غير السورية التي ترعاها إيران، فإنها ستغدو أيضاً بإمرة غرفة عمليات مشتركة، يكون للروس الكلمة الفصل فيها، ما يعني أن دخول "الدب الروسي" إلى حلبة الصراع السوري بدأ يدفع "النمس الإيراني" إلى التواري، أو القبول بالدور الموكل إليه روسياً.
أما الولايات المتحدة، فتعمل على إنشاء جيش آخر أطلق عليه اسم "جيش سورية الديموقراطي" وتأهيله وتجهيزه (سوف نحتاج طبعاً الى أن تشرح لنا واشنطن لاحقاً كيف يمكن أن يكون الجيش ديموقراطياً)، قوامه الرئيس قوات حماية الشعب الكردية. كما يضم الجيش، وقد غدا يحمل اختصاراً اسم "جسد"، إلى ذلك قوى عربية لأغراض تجميلية. وقد أقرت واشنطن للتو تزويده بـ 100 طن من السلاح، تم إسقاط جزء منها، أخيراً، عن طريق الطائرات. ويتراوح تعداد الجيش العتيد، بحسب وسائل إعلامية مختلفة، بين 25-30 ألف مقاتل، وستكون مهمته الأساسية، على ما يبدو، استخلاص الرقة من يد تنظيم الدولة، وتحقيق سبق أميركي على الروس الذين يكتفون، حتى الآن، من حربهم المعلنة على التنظيم، بضرب قوات المعارضة في مناطق التماس الرئيسة مع النظام، شمال سورية وغربها.
وبهذا، يكون المشهد السوري قد جمع، على اختلاف التفاصيل، كل "أمجاد" التجربة الأفغانية،
بنسختيها الروسية (1979) والأميركية (2001). ففي 1979 تدخل الروس لدعم نظام بابراك كارمال، فأدار الأميركان ضدهم حرباً بالوكالة، يساعدهم في ذلك السعودية (دفعت المال) ومصر (باعت السلاح الروسي الذي كانت تملكه إلى المجاهدين الأفغان) وباكستان (نظمت عمليات التوزيع وغيرها من أمور لوجستية). وأدى ذلك، في نهاية المطاف، إلى هزيمة روسيا وسقوط نظام نجيب الله الذي خلف كارمال. وفي 2001، تدخلت واشنطن لإسقاط حكومة حركة طالبان، وكان ذراعها الضارب في ذلك تحالف الشمال الذي ضم أقليات من الطاجيك والأوزبك والهزارة، بزعامة أحمد شاه مسعود. وقد تمكن هذا التحالف، بدعم جوي أميركي، من الوصول إلى كابول وإخراج "طالبان" منها. وتزاوج الولايات المتحدة اليوم بين الأمرين في سورية، وتدير حرب وكالة مزدوجة على أراضيها، فهي، من جهة، تقود تحالفاً دولياً إقليمياً محلياً، هدفه الرئيس إفشال التدخل الروسي الداعم للنظام السوري. ومن جهة ثانية، تعمل على إنشاء وكيل محلي، قوامه الرئيس قوى كردية وسريانية مع بعض العرب، لضرب تنظيم الدولة وإخراجه من الرقة. وإذا كان المثل الإنجليزي الشهير ينطبق هنا: "إذا كانت تبدو كالبطة، وتسبح كالبطة، ولها صوت كصوت البطة، فالأرجح أنها بطة". وعليه، فالأرجح أن ما يجري اليوم في سورية هو حرب بالوكالة، تدار على الأرض السورية، ويسدد ثمنها السوريون، إنما الأرجح أيضاً ألا يربحها الروس، ولا الأميركيون.
لكن، من جهة ثانية، بدا هذا التصريح غير ذي معنى، لأنه يتناقض مع مبدأ أوباما نفسه في السياسة الخارجية، والذي يقوم على فكرة الانكفاء عن التدخل المباشر، وإنشاء موازين قوى إقليمية وإدارتها، من خلال الصراع السوري، تؤدي إلى استنزاف مستمر للجميع، وتحول دون هيمنة طرف على آخر. يخل التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام السوري بقواعد اللعبة التي تديرها واشنطن، منذ نحو خمس سنوات، بين القوى الكبرى المنخرطة في الصراع الإقليمي، وهي تركيا والسعودية وإيران، ويصب في مصلحة ترجيح كفة طرف على آخر، وهو أمر لا تملك واشنطن قدرة التغاضي عنه. من هذا الباب، لم يأخذ المطلعون على حقيقة التفكير الأميركي كلام أوباما على محمل الجد، على غرار أكثر ما يقوله بشأن سورية، أو ما ظل يقوله منذ خمس سنوات. فوق ذلك، بدا واضحاً أن أوباما فقد زمام المبادرة في المنطقة، ولم يعد يملك مفاتيح السيطرة على الأحداث فيها، بعد أن أدار ظهره لها، بل أصبح يعمل بمنطق ردود الأفعال على سياسات الفاعلين الآخرين فيها، والتي أخذت تجرفه نحو تبني مواقف لا يرغب بها. لذلك، نجده، وهو الذي قرر الخروج من العراق بأي ثمن عام 2011، يعود إليه إثر سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة عام 2014، وله اليوم فيه قوة عسكرية من خمسة آلاف عنصر، على الرغم من أن أوباما يصر على أنها قوة غير قتالية، وأنها هناك لأغراض تدريبية واستشارية فقط. ليس هذا فحسب، بل انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن.
واقع الأمر أن واشنطن قررت، على الفور، الرد على التدخل العسكري الروسي المباشر الذي يخلّ بموازين القوى على الأرض في سورية، إذ أفشلت صواريخ "تاو" الأميركية التي تملكها فصائل المعارضة السورية المحاولات اليائسة لقوات النظام، المدعومة بغطاء جوي روسي، لتغيير المشهد الميداني في مناطق ريف حماة واللاذقية. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست في تقريرٍ، نشرته يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن دفعات جديدة من أجيال أكثر تطوراً من هذه الصواريخ المضادة للدروع في طريقها الآن إلى فصائل معارضة سورية.
ليس هذا فحسب، بل يبدو كأن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تتجهان نحو إنشاء قوات برية
أما الولايات المتحدة، فتعمل على إنشاء جيش آخر أطلق عليه اسم "جيش سورية الديموقراطي" وتأهيله وتجهيزه (سوف نحتاج طبعاً الى أن تشرح لنا واشنطن لاحقاً كيف يمكن أن يكون الجيش ديموقراطياً)، قوامه الرئيس قوات حماية الشعب الكردية. كما يضم الجيش، وقد غدا يحمل اختصاراً اسم "جسد"، إلى ذلك قوى عربية لأغراض تجميلية. وقد أقرت واشنطن للتو تزويده بـ 100 طن من السلاح، تم إسقاط جزء منها، أخيراً، عن طريق الطائرات. ويتراوح تعداد الجيش العتيد، بحسب وسائل إعلامية مختلفة، بين 25-30 ألف مقاتل، وستكون مهمته الأساسية، على ما يبدو، استخلاص الرقة من يد تنظيم الدولة، وتحقيق سبق أميركي على الروس الذين يكتفون، حتى الآن، من حربهم المعلنة على التنظيم، بضرب قوات المعارضة في مناطق التماس الرئيسة مع النظام، شمال سورية وغربها.
وبهذا، يكون المشهد السوري قد جمع، على اختلاف التفاصيل، كل "أمجاد" التجربة الأفغانية،