31 أكتوبر 2024
حزب الاستقلال المغربي وأزمة إدارة الصراعات
يجتاز حزب الاستقلال المغربي مرحلة مليئة بالمطبات والمنعرجات، ويمكن القول، إن الحزب العريق يعيش زمناً رمادياً، بسبب ما انزلق إليه من صراعات ومطاحنات ومواجهات تجاوزت ما هو فكري وأيديولوجي وسلمي إلى صدامات دامية، كما حدث ليلة 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما انهار كل شيء وتحولت أجواء الاحتفال والوئام التي كان مفترضاً أن تسود المؤتمر السابع عشر لأقدم حزبٍ في المغرب إلى معركة بالصحون والكراسي بين معسكرين، لم يهتديا إلى بلورة أرضيةٍ للتفاهم والتوافق. وقد كشف ما نشرته شبكات التواصل الاجتماعي بالملموس أن فئات عريضة من المغاربة أصيبت بخيبة أمل كبيرة، وشعرت بعدم جدوى السياسة، وتلبستها الحيرة إزاء ما وقع، لأن الأمر لا يتعلق بحزبٍ فتي، يفتقد الخبرة والتجربة، بل بتنظيم خبر الاستعمار ودواليب الدولة، وتحمل مسؤولية تسيير الشأن العام.
هناك إجماع واسع على أن المشهد الحزبي المغربي بدون "الاستقلال" سيكون رديفاً لمأساة سياسية، لو أن ربابنة الحزب فقدوا البوصلة، واضطروا إلى الغرق، فقد شكل هذا الحزب، بمرجعيته الفكرية المحافظة وأيديولوجيته المعتدلة ذات المسحة الليبرالية، وبرصيده النضالي والسياسي، وما زال يشكل ضرورةً سياسيةً لضمان اشتغال سليم وناجع للديمقراطية في المغرب. وإذا سمح المرء لنفسه، ولو من باب الافتراض، تخيل حقل حزبي وطني خال من
هذا الحزب، فإن هذا الحقل سيبدو، من دون شك، هشاً وباهتاً ومختلاً، وسيكشف، وقتئذ، عن العجز السياسي والفكري المزمن الكامن في الأجهزة القيادية والأدوات التنظيمية لحزب الراحل علال الفاسي، وعن عقم مدمر في إنتاج المبادرات، واقتراح الحلول واجتراح المقاربات. لكن كاتب هذه السطور يعتقد أن الموارد البشرية في حزب الاستقلال لا تشخص حالة من العجز والضعف، فثمة طاقات وقوى اقتراحية وازنة، وآلات تفكير وتنظير تفهم الواقع وتقرأه، في كل المناحي والسياقات، وتفكك المعطيات الظرفية الإقليمية والدولية. وما يحتاجه حزب الاستقلال، بعد كل هذه الانكسارات والثقوب، حسب خبراء، أن يؤمن ناسه أن حزبهم ضروري للمغرب. ولذلك، يجب الحفاظ عليه رقماً أساسياً في المعادلة السياسية الوطنية المغربية، ومكوناً مركزياً في المشهد الحزبي. وأن تدرك كل التيارات المتصارعة داخله أن لا أحد ينوي نسج خيوط مؤامرة لنسف تنظيمهم، وأنه ليست هناك جهة تجتهد لشنق حزب كان دائماً قريباً من المجتمع، وسنداً للدولة.
ما يمكن أن يشكل خطراً على حزب الاستقلال أن ينسى قياديوه ومناضلوه اختلالات الداخل الحزبي وصراعاته، وأن يعجزوا عن تصريف الطموحات الشخصية، وإدارة الخلافات والاختلافات. والخطأ أيضاً أن يعجزوا عن التحكم في صناعة القرار الذاتي، أو تصبح صناعته عملية ملتبسة وغامضة، ما يوفر شروطاً مثالية للتشويش والتأويل والشك في مصداقية أي قيادة حزبية ومسؤوليتها وجديتها وشفافيتها.
جرت العادة في المغرب أن يقلل قادة الأحزاب من تداعيات الصراعات الداخلية وآثارها. لذلك تصر على القول إن أحزابها لن تنال منها العواصف والهزّات، مهما كان حجمها ومصدرها، وهي عصية على الاحتواء من أي جهة كانت، كما أنها تمثل صخرةً تنكسر عليها كل الدسائس والمؤامرات السياسية التي ينسجها خصوم الديمقراطية، لكن ما يحدث اليوم داخل حزب الاستقلال، وغيره من الأحزاب التي كان حليفاً لها تضعه تحت المجهر، ويدعوه إلى أن لا يكون فعلاً صخرة صماء، لا تصل إليها أصداء ما يعتمل هنا وهناك.
مؤكدٌ أن هناك جيلاً جديداً من النشطاء لا يكف عن المطالبة بتحويل حزب الميزان (الاستقلال) إلى مؤسسة ذات برنامج بمضمون سياسي وفكري وأخلاقي، وأجندة ومسالك وخريطة طريق ومعايير لتكافؤ الفرص، ونظام لإدارة الطموحات. وفي هذا السياق، ترتفع عدة أصوات لتدشين حزمة إصلاحات عميقة تمس مختلف الأجهزة والتنظيمات الموازية وطرائق الإدارة والتنظيم، ليصبح أعرق حزب في المغرب، من خلال هذه الثورة الفكرية والتنظيمية الضرورية، إلى جانب قوى وحساسيات أخرى ذات مصداقية، مكوناً أساسياً من بين مكوناتٍ يمكنها أن تقود تحالفاً وطنياً ديمقراطياً، من أجل التغيير والإصلاح والاستقرار بكل أنواعه ودلالاته.
لا شك في أن الحقل السياسي المغربي شهد، في بداية التسعينيات، حركة نشيطة ونقاشاً منتجاً وحركية لافتة، جسّدتها عدة محطات ولحظات، كان أقواها وأشدها إثارة تقديم أحزاب المعارضة آنذاك ملتمس الرقابة، قصد حجب الثقة عن الحكومة. كان متصوّراً، وقتئذ، إبان رصد هذا الفصل المتوتر من اشتغال السياسة في المغرب، أن أمراً عظيماً سيحصل، وأن الحكومات، مهما بلغت من دهاء ومهارة، في إخفاء الحقائق قابلة للسقوط، وأن من رضع من ثدي اليسار والحركة الوطنية، ورفع ردحاً من الزمن شعارات التحرير والحرية والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية والكرامة، هو صمام أمان الشعب، والجسر الذي تتم عبره عملية التغيير الديمقراطي والإصلاحات الدستورية والسياسية الكبرى.
قد يكون للسياق الوطني العام والظرفية الدولية، في تلك المرحلة، ما يبرّره. وقد يكون للعبة
السياسية منطقها الخاص، ولها مهندسوها الذين يتقنون فك الألغاز وتوقع الأسوأ ورسم مختلف السيناريوهات. لكن على الرغم من ذلك كله، لابد من ملاحظة أن تراجعاً كبيراً لحق بالمشهد الحزبي والنقابي في المغرب، خصوصاً وأن المنظومة الحزبية باتت تختزل العمل والممارسة السياسية في مجرد احتلال مواقع ومقاعد داخل البرلمان، والظفر ببعض الحقائب الوزارية، تحت طائلة أن النضال الديمقراطي لا معنى ولا قيمة له، إذا لم يفض ويؤدي مباشرة إلى السلطة.
هناك مشكلة أخلاقية تعاني منها شرائح واسعة من الذين ارتبطوا بأيدولوجيتها ومشاريع أحزاب اليسار، وأيضاً ما يعرف بأحزاب الصف الديمقراطي، في إشارة إلى التنظيمات التي خرجت من رحم الحركة الوطنية المغريية، وفي مقدمتها حزب الاستقلال، فهذه الأحزاب التي عادة ما توصف بالوطنية والديمقراطية، راهنت عليها فئات من المجتمع المغربي، ومنحتها شبابها وحماسها الأيديولوجي، لا سيما وأن هذه الأحزاب زرعت فيها مفاهيم المواطنة والوطنية والوطن والمجتمع العادل والدولة الديمقراطية المؤمنة بالمؤسسات، وشحذتها لكي تدافع عن هذه المفاهيم، وتحملها أمانة في أعناقها، لكنها (الأحزاب) وحسب مراقبين عديدين، فكت ارتباطها بهذه الشعارات، وهربت من النافذة، كي تتنصل من أي التزام نضالي أو أخلاقي يحرجها. وكأنها في سباقٍ ضد الوقت، لتؤكد تفوقها على ما كانت تعرف بأحزاب الإدارة وفق قاموس اليسار، وهي الأحزاب التي أنشاتها السلطة، واستعملتها ضد تنظيماتٍ كان الحكم ينظر إليها بنوع من التوجس وعدم الثقة، لأنها كانت تشكل أداةً للمعارضة الضارية القادرة على تعبئة الشارع، واستثمار حنقه وغضبه.
ما يلاحظ اليوم، أن حالة من الفراغ والهشاشة باتت تخيم على المشهد السياسي والحزبي المغربي، ولم تعد الأحزاب التي كانت ترعب الحكم، وتهز فرائصه، تملك سوى هامش محدود للمناورة، ومجالاً ضيقاً لممارسة وجود باهت على خريطة الفعل السياسي، ما يجعل منها أحزاباً بلا جمهور، في مؤشر على انحسار السياسة وهشاشة الأحزاب. وحتى تكمل الدور، وتؤكد تفوقها على أحزابٍ كانت ترفض الاجتماع بها منذ سنوات قريبة، فإنها رفعت من إيقاع السرعة، وضربت بكل المبادئ عرض الحائط، وانطلقت مندفعة إلى ساحة حرب جديدة، لا اعتقال فيها ولا دم ولا تعذيب ولا جمر ولا رصاص، إنها باختصار حرب التسلق الاجتماعي، وتحسين الأوضاع المادية.
هناك إجماع واسع على أن المشهد الحزبي المغربي بدون "الاستقلال" سيكون رديفاً لمأساة سياسية، لو أن ربابنة الحزب فقدوا البوصلة، واضطروا إلى الغرق، فقد شكل هذا الحزب، بمرجعيته الفكرية المحافظة وأيديولوجيته المعتدلة ذات المسحة الليبرالية، وبرصيده النضالي والسياسي، وما زال يشكل ضرورةً سياسيةً لضمان اشتغال سليم وناجع للديمقراطية في المغرب. وإذا سمح المرء لنفسه، ولو من باب الافتراض، تخيل حقل حزبي وطني خال من
ما يمكن أن يشكل خطراً على حزب الاستقلال أن ينسى قياديوه ومناضلوه اختلالات الداخل الحزبي وصراعاته، وأن يعجزوا عن تصريف الطموحات الشخصية، وإدارة الخلافات والاختلافات. والخطأ أيضاً أن يعجزوا عن التحكم في صناعة القرار الذاتي، أو تصبح صناعته عملية ملتبسة وغامضة، ما يوفر شروطاً مثالية للتشويش والتأويل والشك في مصداقية أي قيادة حزبية ومسؤوليتها وجديتها وشفافيتها.
جرت العادة في المغرب أن يقلل قادة الأحزاب من تداعيات الصراعات الداخلية وآثارها. لذلك تصر على القول إن أحزابها لن تنال منها العواصف والهزّات، مهما كان حجمها ومصدرها، وهي عصية على الاحتواء من أي جهة كانت، كما أنها تمثل صخرةً تنكسر عليها كل الدسائس والمؤامرات السياسية التي ينسجها خصوم الديمقراطية، لكن ما يحدث اليوم داخل حزب الاستقلال، وغيره من الأحزاب التي كان حليفاً لها تضعه تحت المجهر، ويدعوه إلى أن لا يكون فعلاً صخرة صماء، لا تصل إليها أصداء ما يعتمل هنا وهناك.
مؤكدٌ أن هناك جيلاً جديداً من النشطاء لا يكف عن المطالبة بتحويل حزب الميزان (الاستقلال) إلى مؤسسة ذات برنامج بمضمون سياسي وفكري وأخلاقي، وأجندة ومسالك وخريطة طريق ومعايير لتكافؤ الفرص، ونظام لإدارة الطموحات. وفي هذا السياق، ترتفع عدة أصوات لتدشين حزمة إصلاحات عميقة تمس مختلف الأجهزة والتنظيمات الموازية وطرائق الإدارة والتنظيم، ليصبح أعرق حزب في المغرب، من خلال هذه الثورة الفكرية والتنظيمية الضرورية، إلى جانب قوى وحساسيات أخرى ذات مصداقية، مكوناً أساسياً من بين مكوناتٍ يمكنها أن تقود تحالفاً وطنياً ديمقراطياً، من أجل التغيير والإصلاح والاستقرار بكل أنواعه ودلالاته.
لا شك في أن الحقل السياسي المغربي شهد، في بداية التسعينيات، حركة نشيطة ونقاشاً منتجاً وحركية لافتة، جسّدتها عدة محطات ولحظات، كان أقواها وأشدها إثارة تقديم أحزاب المعارضة آنذاك ملتمس الرقابة، قصد حجب الثقة عن الحكومة. كان متصوّراً، وقتئذ، إبان رصد هذا الفصل المتوتر من اشتغال السياسة في المغرب، أن أمراً عظيماً سيحصل، وأن الحكومات، مهما بلغت من دهاء ومهارة، في إخفاء الحقائق قابلة للسقوط، وأن من رضع من ثدي اليسار والحركة الوطنية، ورفع ردحاً من الزمن شعارات التحرير والحرية والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية والكرامة، هو صمام أمان الشعب، والجسر الذي تتم عبره عملية التغيير الديمقراطي والإصلاحات الدستورية والسياسية الكبرى.
قد يكون للسياق الوطني العام والظرفية الدولية، في تلك المرحلة، ما يبرّره. وقد يكون للعبة
هناك مشكلة أخلاقية تعاني منها شرائح واسعة من الذين ارتبطوا بأيدولوجيتها ومشاريع أحزاب اليسار، وأيضاً ما يعرف بأحزاب الصف الديمقراطي، في إشارة إلى التنظيمات التي خرجت من رحم الحركة الوطنية المغريية، وفي مقدمتها حزب الاستقلال، فهذه الأحزاب التي عادة ما توصف بالوطنية والديمقراطية، راهنت عليها فئات من المجتمع المغربي، ومنحتها شبابها وحماسها الأيديولوجي، لا سيما وأن هذه الأحزاب زرعت فيها مفاهيم المواطنة والوطنية والوطن والمجتمع العادل والدولة الديمقراطية المؤمنة بالمؤسسات، وشحذتها لكي تدافع عن هذه المفاهيم، وتحملها أمانة في أعناقها، لكنها (الأحزاب) وحسب مراقبين عديدين، فكت ارتباطها بهذه الشعارات، وهربت من النافذة، كي تتنصل من أي التزام نضالي أو أخلاقي يحرجها. وكأنها في سباقٍ ضد الوقت، لتؤكد تفوقها على ما كانت تعرف بأحزاب الإدارة وفق قاموس اليسار، وهي الأحزاب التي أنشاتها السلطة، واستعملتها ضد تنظيماتٍ كان الحكم ينظر إليها بنوع من التوجس وعدم الثقة، لأنها كانت تشكل أداةً للمعارضة الضارية القادرة على تعبئة الشارع، واستثمار حنقه وغضبه.
ما يلاحظ اليوم، أن حالة من الفراغ والهشاشة باتت تخيم على المشهد السياسي والحزبي المغربي، ولم تعد الأحزاب التي كانت ترعب الحكم، وتهز فرائصه، تملك سوى هامش محدود للمناورة، ومجالاً ضيقاً لممارسة وجود باهت على خريطة الفعل السياسي، ما يجعل منها أحزاباً بلا جمهور، في مؤشر على انحسار السياسة وهشاشة الأحزاب. وحتى تكمل الدور، وتؤكد تفوقها على أحزابٍ كانت ترفض الاجتماع بها منذ سنوات قريبة، فإنها رفعت من إيقاع السرعة، وضربت بكل المبادئ عرض الحائط، وانطلقت مندفعة إلى ساحة حرب جديدة، لا اعتقال فيها ولا دم ولا تعذيب ولا جمر ولا رصاص، إنها باختصار حرب التسلق الاجتماعي، وتحسين الأوضاع المادية.