مع اقتراب أعياد الميلاد ورأس السنة، تنهمك العاصمة البريطانية لندن. كحامل تتهيّأ لاستقبال مولودها الجديد. وينشغل الجميع بالتحضير لهذه المناسبة. ولم تفلت تلك المرأة القابعة في ركن زاوية أحد المكاتب من غزو الزبائن الذين أرادوا إنهاء جميع الأمور العالقة قبل حلول العيد. فانهمكت باستقبالهم، كما لم يسمح لها جرس الهاتف، الذي كان يرنّ باستمرار طلباً للمواعيد، أن تتّصل بابنها زياد ذي الـ16 عاماً، للاطمئنان عليه، كونه اشتكى في الصباح الباكر من صداع.
كانت تبدأ العمل من التاسعة صباحاً حتّى السّادسة مساء. بالكاد تجتمع بأولادها الذين رافقوها إلى البلد، بعد أن قرّرت الانفصال عن زوجها. لم يكن الأمر سهلاً كما تصوّرته، حين تخلّت عن 16 عاماً أهدرتها في بناء ما اعتقدته مستقبلاً أفضل لها ولعائلتها. وبدأت من الصفر في بلد حيث تجهل قوانين اللعب.
معاناتها مع زوجها كانت أقوى من قرار الركون إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي الجيّد الذي كانت تتمتّع به. ففضّلت خوض غمار المجهول، بعيداً عن جوّ مشحون بالنفاق.
شردت لبرهة تتحسّر على ما آلت إليه الأمور، وهي المرأة المثقّفة، التي عانت الأمرّين ولم تحقّق ولو جزءاً من أحلامها، كون بلادها لا تعترف بمثيلاتها، ممّن ينحدرن من عائلات متواضعة. بل عملت بجهد في وظيفة لم تتمنّاها يوماً، لكنّها كانت جيّدة نوعاً ما، للحفاظ على "برستيج" بالغ الأهميّة في ذلك الجزء من العالم.
ابتسمت حين مرّت في ذهنها صورة ابنها وابنتها. فإذا عجزت عن الإمساك بفرصة في بريطانيا، فسوف ينجح أحدهما. ربّما بوظائف ومناصب مهمّة، من دون السؤال عن اسم العائلة ومركز الأب أو الجدّ...
قطع حبل أفكارها رنين الهاتف، وجاء صوت ابنها يسأل أن تقلّه إلى منزل خالته، حيث اتفقت العائلة على الاجتماع ذلك المساء. غير أنّها رفضت وطلبت منه ركوب الحافلة لأنّها ستتأخّر في العمل.
وبما أنّه شاب هادئ اقتنع فوراً. حين همّت بالرحيل اتّصلت به فأعلمها أنّه على وشك الوصول. وبعدما اطمأنّت راحت تستمع إلى الأغنيات وهي تقود باتجاه سكن أختها. غير أنّ قلبها كان منقبضاً، حتّى أنً الدموع كانت تتسابق لتنهمر من مقلتيها. وراحت تتساءل عن سبب هذا الحزن العميق الذي ألمّ بها فجأة ذلك النّهار، وتحاول أن تجد له سبباً.
قبل وصولها بخمس دقائق تقريباً ازدحم السير في تلك المنطقة على غير عادته في ذلك الوقت. ودوّى صوت سيّارات الإسعاف والشرطة، التي مرّت بجانبها. وتوقّفت الحافلة قرب إشارة المرور، كما توقفت جميع السيارات عن الحركة على بعد أمتار أمامها.
لم تشأ معرفة ما يجري واتخذت طريقاً فرعياً، وقرعت باب أختها. سألت عن زياد الذي كان لا بدّ أنّه وصل قبلها. غير أنّه لم يكن هناك، وسألت ابن خالته إن اتّصل به، ولم يكن جوابه مطمئناً، إذ قال إنّ زياد لا يجيب على هاتفه. حتّى إنّ صديقته اتصلت تسأل عنه لأنّه لا يردّ على رسائلها أو اتصالاتها.
تجمّد الدم في عروق الوالدة، وأرادت أن ترفض الأفكار السوداء التي اجتاحت مخيّلتها، وقالت متلعثمة لأختها: "هناك سيّارات إسعاف في الخارج على مقربة من المنزل، سأذهب لأتحقّق من الأمر". وهرعت تحاول الجري غير أنّ الكعب العالي أبطأ حركتها. لحقت بها أختها، وفي تلك الدقائق الموتورة، كانت أم زياد تقول لأختها: "أرجو ألا يكون زياد قد أصيب بمكروه". ثمّ أردفت: "أتمنّى أن يكون تعارك مع بعض الشباب أو أن يكون تأذّى بعض الشيء". جلّ ما رجته أن يكون ابنها حيّاً. فاستعادة مشهد سيارات الإسعاف وكثافة سيّارات الشرطة وإغلاق محيط المنطقة بالكامل لم يبشّر بالخير أبداً.
وصلتا إلى موقع الحادثة، وبينما وقفت أم زياد تستفسر من سائق الحافلة عن الحادث، كانت أختها وصلت إلى سيّارة الإسعاف. قال السائق إنّ سيارة مجهولة دهست مراهقاً آسيوياً على ما يبدو. ولم يكمل جملته حتّى كان صراخ خالة زياد قد ملأ أرجاء المكان: "إنّه زياد يا أختي، وراحت تصفع وجهها من دون وعي".
لفتت انتباه الشرطة التي أحاطت بها وحاولت تهدئتها، ولم يكن من أمّ زياد سوى الجري نحو ابنها، بعد أن أخرس الخبر لسانها. غير أنّها لم تلمح منه سوى قدمه، عندما استوقفتها الشرطة، تسألها من تكون؟ قالت: "إنّه ولدي، دعوني أقترب". وكانت تحاول الحفاظ على رباطة جأشها، كي يُسمح لها بالدنو من ابنها، بيد أنّها فشلت في ذلك.
أمسك بها شرطيّان ورافقاها إلى حافلة خاصّة للشرطة، وطلبا منها الإجابة عن بعض الأسئلة، للمساعدة في إنقاذ حياة ابنها. كانت ترتجف كطفلة رأت شبحاً، وسألت :"هل سيعيش؟". أرادت - ولو كذباً- جواباً يطمئنها، غير أنّ تلك البلاد لا يجامل فيها الأطباء أو الشرطة أو أيّ كان. وجاءها الجواب الذي لم ترد أن تسمعه: "لا ندري، الطبيب المختصّ سيصل بعد دقائق وسنقوم بكل ما نستطيع من أجل إنقاذ ابنك، وعن وضعه لا إصابات خارجية. الجسد سليم، باستثناء كسر في الجمجمة ونزيف داخلي في الرأس".
كان الشرطي يتحدّث إليها، وهي تفكّر: هل هي الأقدار؟ أم هو ذنبها؟ أم ذنب زوجها؟ وهنا خطر على بالها والد زياد. فمن حقّه أن يعلم ما حلّ بابنه. وبعد انقطاع كامل، ولمدّة سنة تقريباً، اتّصلت به لتعلمه بالمصيبة التي حلّت بها، وأنّ زياد يتأرجح بين الحياة والموت.
في المستشفى، حيث اجتمعت العائلة ذلك المساء، سمح الطبيب لها برؤية ابنها قبل دخوله غرفة العمليّات. كان زياد غائباً عن الوعي، غير أنّها تحدّثت إليه، طلبت منه المقاومة ليحيا ورجته أن يعيش لأنّه أملها في الحياة.
دخل زياد غرفة العمليّات وكانت تلك أصعب ساعات حياتها، كلّ ما مرّت به منذ طفولتها حتّى اللحظة بات نعيماً مقارنة بما هي عليه الآن. كانت العائلة تحاول التخفيف عنها، غير أنّها كانت مغيّبة بالكامل، إلى أن دخل الطبيب الغرفة، وقفزت من مقعدها تسأل عن حال ابنها.
ابتسم الطبيب وقال إنّ العمليّة نجحت وباستطاعتها أن ترى ابنها بعد قليل. وكانت تلك الكلمات أجمل من أجراس الميلاد وهداياه، كانت ولادة ابنها من جديد.