تخبّط "العبقري الذي يعرف كل شيء" في فراشه وكأنه في نزاع مروع مع أعدائه، ونفثت حنجرته حشرجة مخنوقة وأنيناً يغمغم بالتذلّل والرجاء، ثم جفل مستيقظاً بسحنة وخيمة.
تألم لأن (إيلينا) النائمة بجواره لم تشعر بعذابه. جلس ورأسه مائل على كتفه الأيسر، وفكر كيف يمكن لأبي الكوابيس أن يرى كابوساً؟ أليس هو الجاثم على صدور الملايين وبيده الحياة والموت؟ فمن أين أتى هذا "الشيء" المتناهي في الحقارة ليُعكر صفو نومه؟! نهض من السرير وهو يشعر بألم فظيع في أضراسه التي طحنت بعضها بعضاً بضراوة طيلة الليل حتى كادت تتفتت. أدخل بنانه بين ردفيه ثم قربها من أنفه.. مضى بتثاقل وجسدٍ منهك إلى المرحاض وحالته مثيرة للشفقة: حلقه جاف، لسانه يابس كلوح خشبي، وشفتاه متورمتان من التنميل، ونَفَسُه نتن جيفة.
بال واقفاً مغمض العينين، وحين فتحهما ونظر في المرآة التي تغطي الجدار بكامله شد قامته، وأغلق فمه، واتخذ الوقفة الرسمية المهيبة التي تعكس جبروته كرب للشعب ورئيس للبلاد. الوميض المنبعث من الرخام جعله يتخيّل الكاميرات ترصد حركاته وتعبيرات وجهه، وأن مظاهر التبجيل تحف به من كل جانب والجماهير المحتشدة تهتف بحياته فراح يرد لهم التحية.. ثم انفقأ حلم اليقظة بغتة حين أدرك أنه لم يكن يُلوّح بيده، بل كان يؤرجح بلبله الرخو!
سمع وقع أقدام في الردهة فشعر بالامتعاض، إذ لطالما نبّه موظفات القصر بالمشي على رؤوس أصابعهن. كانت عنده عقدة من هذا الصوت لم يُسرّ بها لأحد، لحرصه على كتمان نقاط ضعفه، وكان ذهنه لا إرادياً يفرز صوراً سلبية تذكّره بمهنته الوضيعة في صباه فينتابه مزاج سيئ ويصير متكدّرا.
راح يتشهّى في خياله زوجة السفير البرازيلي، وهي مهمة تشغيل روتينية يومية، تشبه استعراض حرس الشرف، ليتأكد من جهوزية سلاحه الرجولي، طبعاً مع تغيير زوجة السفير في كل مرة.
لم تنجح محاولاته في الإنعاظ فاستسلم على مضض، وقرر بحسم أنه ليس من حسن الطالع أن يأكل الفاصوليا في المنام.
استُدعي العراف (إدمريسكو) بمكالمة هاتفية، ونقلته طائرة مروحية من قريته المعششة في إبط النهر جنوب البلاد إلى (بيت الجمهورية) في بوخارست، وهو لم يكمل حلاقة ذقنه، ولا عرف ماذا يُراد منه، باستثناء أنه كان مخفوراً بعناصر من الحرس الخاص الخُرس.
حين مَثُلَ العراف أمام "المنار المضيء للإنسانية"، أدرك بفراسته الغجرية أن عبوسة الوجه وراءها أزمة عميقة، وأنه سيواجه أصعب امتحان في حياته.
ساقا فخامته كانتا ملتويتين للوراء وليستا منفرجتين على وسعهما كالعادة، ونظرته فقدت ثباتها وقوتها، وبدت تائهة تدور من جهة لأخرى، وكأنما يحمل هاتين المقلتين شرطي أعزل محاصر بين حشود بشرية غاضبة.
ببطء حكى "دانوب الفكر" حلمه وهو يتأتئ وصدغاه يرشحان عرقاً. تجرأ العراف على الضحك ليهوّن من الأمر، وتأوّل الحلم بأن جنابه سيجمع ثروة طائلة.
شعر المستشارون وفريق صغير من الحاشية - بينهم مهندسون معماريون - وطاقم السكرتارية بالتوتر والخوف، وأدركوا أن مزاج "الشمس التي تدفئ" مُعكّر للغاية وله رائحة الموت.
هبّ فخامته واقفاً وصفق بيديه ثلاث مرات، فغادر الجميع بمن في ذلك حراسه الشخصيون. تهاوى قاعداً وأخرج من جيبه تمثالاً صغيراً من المرمر لـ(الإسكندر الأكبر) مركّزاً عليه أنظاره أملاً في تهدئة خواطره.
لبد العراف في مكانه كالحجر غاضّاً بصره. تكلّم "منقذ الشعب" لاهث الأنفاس: "لم يكن حلماً بل كابوساً.. والفاصوليا التي أكلتها لم تكن صحناً واحداً، بل قدوراً من تلك التي تستخدم في إطعام الجيوش، وكلها حمراء بلون الدم". مرّ دهر من الصمت الثقيل المدجج بالرهبة. انشغل ذهن فخامته خلالها بالممرات الخفية والملاجئ السرية. حين أفاق من ذلك الفكر الذي يشبه الهلوسة الصامتة، وقف مسترداً رباطة جأشه، ودنا برأسه من أذن العراف، وتكلم بصوت أشبه بالفحيح وقد تصاعد من جوفه بخار حارق لزج: "لم أكن آكلها برضاي، كنت وسط جماعة من الناس يرغمونني على أن أفتح فمي، كانوا يعذبونني حتى أنني أحسستُ بحبوب الفاصوليا تخرج من تحتي أكواماً".
خفق قلب العراف بتسارع وشعر ببرودة في أطرافه. وأما أذنه التي اتسخت بأنفاس فخامته فلم يجرؤ على مسحها، وكان عليه الصبر حتى تجف من تلقاء نفسها. رأى مولاه يرتجف، فبذل مجهوداً جباراً ليمنع أصابعه من الارتجاف. أخذت الكراسي الفخمة تتمايل، والحوائط المُلبّسة بالرخام تنتفخ كبطون الحبالى، والسجادة الثمينة تدور عكس اتجاه عقارب الساعة، وضوء النهار يخبو في عينيّ العراف المرتعد من هول الموقف.
راح فخامته يلف ويدور ويداه خلف ظهره، ثم أشار للعراف بأن يقترب منه.. وبحركة مباغتة قبض على عضد العراف بكل قوته، وحدّق في عينيه دون أن يرمش، وطالبه بتفسير حلمه دون غش. كتم العراف الوجع الذي شعر به، لأن قبضة فخامته الفولاذية كادت تسحق لحم وعظم ساعده. تحدث بنبرة واهنة وقد تغيّر لونه: " تعبئة.. تعبئة تجري ضدك.. سيدي الرئيس".
(كاتب يمني)
تألم لأن (إيلينا) النائمة بجواره لم تشعر بعذابه. جلس ورأسه مائل على كتفه الأيسر، وفكر كيف يمكن لأبي الكوابيس أن يرى كابوساً؟ أليس هو الجاثم على صدور الملايين وبيده الحياة والموت؟ فمن أين أتى هذا "الشيء" المتناهي في الحقارة ليُعكر صفو نومه؟! نهض من السرير وهو يشعر بألم فظيع في أضراسه التي طحنت بعضها بعضاً بضراوة طيلة الليل حتى كادت تتفتت. أدخل بنانه بين ردفيه ثم قربها من أنفه.. مضى بتثاقل وجسدٍ منهك إلى المرحاض وحالته مثيرة للشفقة: حلقه جاف، لسانه يابس كلوح خشبي، وشفتاه متورمتان من التنميل، ونَفَسُه نتن جيفة.
بال واقفاً مغمض العينين، وحين فتحهما ونظر في المرآة التي تغطي الجدار بكامله شد قامته، وأغلق فمه، واتخذ الوقفة الرسمية المهيبة التي تعكس جبروته كرب للشعب ورئيس للبلاد. الوميض المنبعث من الرخام جعله يتخيّل الكاميرات ترصد حركاته وتعبيرات وجهه، وأن مظاهر التبجيل تحف به من كل جانب والجماهير المحتشدة تهتف بحياته فراح يرد لهم التحية.. ثم انفقأ حلم اليقظة بغتة حين أدرك أنه لم يكن يُلوّح بيده، بل كان يؤرجح بلبله الرخو!
سمع وقع أقدام في الردهة فشعر بالامتعاض، إذ لطالما نبّه موظفات القصر بالمشي على رؤوس أصابعهن. كانت عنده عقدة من هذا الصوت لم يُسرّ بها لأحد، لحرصه على كتمان نقاط ضعفه، وكان ذهنه لا إرادياً يفرز صوراً سلبية تذكّره بمهنته الوضيعة في صباه فينتابه مزاج سيئ ويصير متكدّرا.
راح يتشهّى في خياله زوجة السفير البرازيلي، وهي مهمة تشغيل روتينية يومية، تشبه استعراض حرس الشرف، ليتأكد من جهوزية سلاحه الرجولي، طبعاً مع تغيير زوجة السفير في كل مرة.
لم تنجح محاولاته في الإنعاظ فاستسلم على مضض، وقرر بحسم أنه ليس من حسن الطالع أن يأكل الفاصوليا في المنام.
استُدعي العراف (إدمريسكو) بمكالمة هاتفية، ونقلته طائرة مروحية من قريته المعششة في إبط النهر جنوب البلاد إلى (بيت الجمهورية) في بوخارست، وهو لم يكمل حلاقة ذقنه، ولا عرف ماذا يُراد منه، باستثناء أنه كان مخفوراً بعناصر من الحرس الخاص الخُرس.
حين مَثُلَ العراف أمام "المنار المضيء للإنسانية"، أدرك بفراسته الغجرية أن عبوسة الوجه وراءها أزمة عميقة، وأنه سيواجه أصعب امتحان في حياته.
ساقا فخامته كانتا ملتويتين للوراء وليستا منفرجتين على وسعهما كالعادة، ونظرته فقدت ثباتها وقوتها، وبدت تائهة تدور من جهة لأخرى، وكأنما يحمل هاتين المقلتين شرطي أعزل محاصر بين حشود بشرية غاضبة.
ببطء حكى "دانوب الفكر" حلمه وهو يتأتئ وصدغاه يرشحان عرقاً. تجرأ العراف على الضحك ليهوّن من الأمر، وتأوّل الحلم بأن جنابه سيجمع ثروة طائلة.
شعر المستشارون وفريق صغير من الحاشية - بينهم مهندسون معماريون - وطاقم السكرتارية بالتوتر والخوف، وأدركوا أن مزاج "الشمس التي تدفئ" مُعكّر للغاية وله رائحة الموت.
هبّ فخامته واقفاً وصفق بيديه ثلاث مرات، فغادر الجميع بمن في ذلك حراسه الشخصيون. تهاوى قاعداً وأخرج من جيبه تمثالاً صغيراً من المرمر لـ(الإسكندر الأكبر) مركّزاً عليه أنظاره أملاً في تهدئة خواطره.
لبد العراف في مكانه كالحجر غاضّاً بصره. تكلّم "منقذ الشعب" لاهث الأنفاس: "لم يكن حلماً بل كابوساً.. والفاصوليا التي أكلتها لم تكن صحناً واحداً، بل قدوراً من تلك التي تستخدم في إطعام الجيوش، وكلها حمراء بلون الدم". مرّ دهر من الصمت الثقيل المدجج بالرهبة. انشغل ذهن فخامته خلالها بالممرات الخفية والملاجئ السرية. حين أفاق من ذلك الفكر الذي يشبه الهلوسة الصامتة، وقف مسترداً رباطة جأشه، ودنا برأسه من أذن العراف، وتكلم بصوت أشبه بالفحيح وقد تصاعد من جوفه بخار حارق لزج: "لم أكن آكلها برضاي، كنت وسط جماعة من الناس يرغمونني على أن أفتح فمي، كانوا يعذبونني حتى أنني أحسستُ بحبوب الفاصوليا تخرج من تحتي أكواماً".
خفق قلب العراف بتسارع وشعر ببرودة في أطرافه. وأما أذنه التي اتسخت بأنفاس فخامته فلم يجرؤ على مسحها، وكان عليه الصبر حتى تجف من تلقاء نفسها. رأى مولاه يرتجف، فبذل مجهوداً جباراً ليمنع أصابعه من الارتجاف. أخذت الكراسي الفخمة تتمايل، والحوائط المُلبّسة بالرخام تنتفخ كبطون الحبالى، والسجادة الثمينة تدور عكس اتجاه عقارب الساعة، وضوء النهار يخبو في عينيّ العراف المرتعد من هول الموقف.
راح فخامته يلف ويدور ويداه خلف ظهره، ثم أشار للعراف بأن يقترب منه.. وبحركة مباغتة قبض على عضد العراف بكل قوته، وحدّق في عينيه دون أن يرمش، وطالبه بتفسير حلمه دون غش. كتم العراف الوجع الذي شعر به، لأن قبضة فخامته الفولاذية كادت تسحق لحم وعظم ساعده. تحدث بنبرة واهنة وقد تغيّر لونه: " تعبئة.. تعبئة تجري ضدك.. سيدي الرئيس".
(كاتب يمني)