ويعيش قطاع غزة هذه الأيام بالضبط، ما يعيشه عقب كل حرب، من تهافت دولي وإقليمي على إرسال المساعدات الإنسانية والتعهد بمزيد من التسهيلات والوقوف إلى جانب الفلسطينيين. ومنذ مجزرة الاثنين الدامي في غزة، أو ما سمّيت في حينه بـ"مليونية العودة"، تحرّكت الكثير من الأطراف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ومساعدة القطاع الذي يتعرّض لأزمة حقيقية في القطاعات الاقتصادية والصحية والمعيشية المختلفة، وباتت أوضاعه الحياتية مرتبطة بأي تحسّن حقيقي مهما كان حجمه. لكن اللافت للنظر غياب البعد السياسي عن الحلول التي يجري طرحها، حيث يحضر فقط البعد الإنساني. وعلى أهميته لمساعدة أهالي غزة المكتوين بنار الحصار منذ 12 عاماً، إلا أنّ هذا البعد يعطي نتائج سلبية لكيفية نظر الأطراف إلى غزة والملف الفلسطيني ككل.
ودائماً ما يجري التحايل على الحلول السياسية للقضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني المرتبطة أصلاً بوجود الاحتلال واستمرار انتهاكاته، بطرح حزم من التعهدات الاقتصادية والمساعدات المجتمعية، التي لا ينفّذ منها على أرض الواقع إلا القليل، إذ يزول معظمها مع الأيام، باستثناء تعهدات المانحين الدائمين الذين لا تتغيّر مواقفهم، غير المرتبطة أساساً بالأحداث على الأرض.
وفي هذا الإطار، وجّه المفوّض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، (أونروا)، بيير كرينبول، نداءً طارئاً للعالم لإنقاذ القطاع الصحي في غزة، ومساعدة الوكالة الأممية كي تُقدّم المساعدات الطبية والعلاج اللازم للمرضى الفلسطينيين المصابين في أحداث مسيرات العودة، والذين تم بتر أطراف بعضهم وهم يحتاجون لمساعدات طويلة وعاجلة. وقال كرينبول خلال مؤتمر صحافي في غزة، أمس الثلاثاء: "بكل صراحة العالم لا يقدّر ما الذي حدث في غزة منذ بداية مسيرات العودة. نحو 117 شخصاً قتلوا بواسطة الاحتلال الإسرائيلي، منهم 13 طفلاً، ونحو 13 ألف آخرين أصيبوا خلال الأحداث، منهم 3500 شخص بالرصاص الحي"، مضيفاً أنّ "تجريد غزة من الإنسانية لا يجلب السلام إلى المنطقة".
من جهتها، تنبّهت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" إلى هذه القضية وأعلنت، في بيان أمس، أنّ "قضية شعبنا الفلسطيني ونضاله العادل من أجل انتزاع حقوقه الثابتة هي قضية تحرر وطني، ارتقى من أجلها عشرات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى والمبعدين"، رافضةً "اختزال القضية الفلسطينية بالبعد الإنساني، أو مقايضة هذه الحقوق بمساعدات هنا أو تسهيلات هناك، أو فتح الباب لبازارات السياسيين للمتاجرة بالقضية الفلسطينية"، مع تأكيدها على "حق الشعب الفلسطيني في حلّ المشكلات الاقتصادية والمعيشية وتوفير الحياة الكريمة له".
وفي هذا الإطار، يقول الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، لـ"العربي الجديد"، إن حالة الاهتمام بواقع قطاع غزة لها بعدان؛ "الأوّل يتمثّل في الاهتمام الأميركي الإسرائيلي بالإضافة إلى بعض الأوساط العربية بأوضاع غزة، وقد عقد لهذا الغرض مؤتمر في واشنطن وآخر في بروكسل، وسط رغبة في تغيير النظرة والحالة القائمة بغزة، خصوصاً في ما يتعلّق بالواقع الاقتصادي، من أجل إحداث حالة من التنمية بالقطاع، لها علاقة بصفقة القرن".
أمّا البعد الثاني، بحسب عوكل، فقد "نتج عن مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، إذ لا يستطيع أحد إغفال حالة الاهتمام التي نشأت عقبها، بالقضية الفلسطينية، مثل انعقاد مجلس الأمن، ومجلس جامعة الدول العربية، ودول منظمة التعاون الإسلامي وغيرها".
ويربط عوكل الاهتمام الحالي بالقطاع "بالمخططات الأميركية الإسرائيلية المتمثلة بصفقة القرن من جهة، والرغبة في تبريد الجبهة المشتعلة في غزة، كونها تعيش حالة أشبه بحالة حرب، ولا بدّ أن تكون هناك بعض الإجراءات التفكيكية التي تمكّن من فقدان مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار أهميتها الاستراتيجية المتمثلة في الاستمرارية، من جهة أخرى"، مشيراً إلى أنّ ما يجري حالياً "تحضير لمرحلة لاحقة تهدف إلى تبريد السلاح الفلسطيني بيد المقاومة، والوصول إلى تفاهمات ربما تكون أوسع وأعمق في ظلّ استجابات من قبل وسطاء عرب وغير عرب".
ويرى الكاتب أنه "لا ضمانات على بقاء حالة الاهتمام أو الالتزام بأي تفاهمات قائمة، سواء من قبل إسرائيل أو غيرها، لا سيما مع التجارب السياسية الطويلة في العقدين الماضيين، كاتفاقية أوسلو وصفقة الأسرى وغيرها".
وعن الرؤية المستقبلية للمشهد في غزة، يشير عوكل إلى أنه ورغم حالة الانشغال بالوضع الصحي للرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلا أنّ "المسيرات ستتواصل على الحدود وإن كانت بأقل حدة وأقل كلفة بشرية، من أجل الوصول إلى تحقيق الحد الأدنى من أهدافها، في حين ستواصل مصر مساعيها مع إسرائيل للوصول إلى تفاهمات تخفف من حدة الواقع السيئ في غزة".