وتطبيقاً لأمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بدأ رئيس الحكومة، إدوار فيليب، أمس الاثنين، مشاورات مع زعماء الأحزاب السياسية كافة، الممثلة وغير الممثلة في البرلمان. وتشمل هذه المشاورات الاشتراكي أوليفييه فور، ولوران فوكييز، عن "الجمهوريون"، والإيكولوجي (البيئي) دافيد كورمان، وستانيسلاس غيريني عن "الجمهورية إلى الأمام"، وجان كريستوف لاغارد عن "الاتحاد الديمقراطي المستقل"، وكذلك مارين لوبان، وبنوا آمون، ونيكولا دوبون إينيان، وفرانك رييستير، ومارييل دي سارنيز، وفلوريان فيليبو، وأخيراً الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي، فابيان روسيل، علماً أنّ حركة "فرنسا غير الخاضعة" ورئيسها جان لوك ميلانشون، رفضت دعوة الحكومة، وتراها مهزلة.
وإذا كانت الحكومة تريد من هذه اللقاءات وضع الأحزاب السياسية في صورة ما يجري، ثمّ وضعها أمام مسؤولياتها، لأن الأزمة تؤثّر على الجميع، فإنّ أحزاب المعارضة تريد الاستفادة ما أمكن من هذا الاحتقان الشعبي، رغم تأكيدها على غياب أي نية لديها لاستغلالها واستثمارها. فالاشتراكي فور يريد تنظيم نقاش في البرلمان بغرفتيه، إذ سينظّم، يوم غدٍ الأربعاء، في مجلس النواب، فيما سينظّم الخميس في مجلس الشيوخ، وهو ما قبلته الحكومة. كما أن فور يهدد بالتصويت على مذكرة سحب الثقة من الحكومة التي تقدّم بها الشيوعيون، مدعومين من طرف حزب "فرنسا غير الخاضعة"، في حال استمرار الحكومة في تعنتها وغموض مواقفها.
إلى ذلك، فإنّ زعيمة حزب "التجمّع الوطني الفرنسي" اليميني المتطرّف، مارين لوبان، لا تخفي رغبتها في حلّ البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة تزيد من حصّتها وتمنحها حق تشكيل مجموعة برلمانية. وقد أبت لوبان إلا أن تقحم قضية الهجرة في النقاش، حين رأت أنها تؤثر سلباً على القدرة الشرائية للمواطنين الفرنسيين.
بدوره، يطالب لوران فوكييز بإجراء استفتاء حول "سياسة ماكرون الإيكولوجية (البيئية) الضريبية" من أجل وضع حدّ لحركة السترات الصفراء، ويحذر من أنّ "تجميداً مؤقتاً للضرائب أو وقفها فقط خلال أشهر، لن يكون جواباً". كما يحذر فوكييز من تأزّم الظروف الأمنية.
أما دوبون إينيان، فيطالب بتراجع الحكومة عن الزيادة في أسعار المحروقات، كاشفاً أنّ "هدف الحكومة ليس الانتقال الإيكولوجي، وإنّما العثور على المال في جيوب الفرنسيين".
وفي ما يخصّ المعنيين بالأمر، أي حركة السترات الصفراء، فقد وجه رئيس الحكومة الدعوة للقاء من يختارونه منهم بعد ظهر اليوم، الثلاثاء. ولكن الالتقاء بهؤلاء ليس بالأمر السهل، بسبب عدم تنظيمهم وأيضاً بسبب اختلاف توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، وهو ما ينعكس على اختلاف ملفاتهم المطلبية. وقد جرّب رئيس الحكومة الأسبوع الماضي بداية حوار معهم، انتهى بفشل ذريع، بسبب انسحاب أحد المتفاوضَين بسبب رفض بث اللقاء مباشرة عبر وسائل الإعلام، ثمّ تبعه زميله بعد نصف ساعة.
وحتى المجموعة التي نشرت أول من أمس، الأحد، بياناً في صحيفة "لو جورنال دي ديمانش"، المقربة من الإيليزيه، والتي قدّمت نفسها على أنها "معتدلة"، تمييزاً لنفسها عن مثيري الشغب، تعرف أيضاً أنّ الأمور ليست سهلة. فأحد الموقّعين على البيان، بنجامان غوشي، أعلن عدم مشاركته في لقاء رئيس الحكومة، بسبب وجود تهديدات ضده من طرف أعضاء غاضبين في حركة السترات الصفراء، رغم تشديده على أنّ الحكومة ملزَمة بتقديم تنازلات. كذلك، لا يثق مُوقّع ثان، وهو كريستوف شالنسون، في الحكومة، رغم تأكيده حضور لقاء اليوم، وهو يطالب باستقالة رئيس الوزراء وتعيين الجنرال بيير دي فيليي، رئيس الأركان السابق الذي عزله ماكرون، مكانه.
ولعلّ موقف الموقّعة الثالثة، وهي جاكلين مورو، التي أدت دوراً رئيساً في إطلاق شرارة السترات الصفراء، هو الأوضح بشأن طبيعة المفاوضات المقبلة مع الحكومة، فقد أكدت وضع شرط لا غنى عنه، وهو إلغاء الزيادة على أسعار المحروقات في شهر يناير/ كانون الثاني، أي قبل أي تفاوض. مع العلم أنّ ثمّة زيادات كل سنة لغاية عام 2022. وترى مورو أنّ الحكومة مدعوةٌ للالتقاء بوفود كثيرة من أصحاب السترات الصفراء، لأنه "لا يوجد وفد أكثر شرعية من الوفد الآخر".
وإذا كان وقف أو تجميد زيادة يناير يعتبر شرطاً، فإنّ مطالب السترات الصفراء تتجاوز الإطار الإيكولوجي الضريبي، لتصل إلى مسألة تهمّ الفرنسيين كلهم، وهي القدرة الشرائية، بكل ما يعنيه الأمر من رفع الأجور، ووقف استنزاف المتقاعدين وأيضاً إعادة فرض الضرائب على الأغنياء.
ولا يمكن استبعاد خطر حقيقي متمثّل في عدم عثور الحكومة على مفاوضين من السترات الصفراء، في حال إصرارها على المضي قدماً في توجهاتها البيئية الضريبية، مع نهاية العام الحالي، وعدم تقديم تنازلات تستجيب لبعض طلبات أصحاب السترات الصفراء، وتنزع البساط من تحت أرجل المتشددين، الذين يطالبون باستمرار المواجهة وباستقالة الرئيس ماكرون.
وإلى الآن، لا يبدو أنّ الحكومة جادة في رؤية ممثّلين معتدلين من حركة "السترات الصفراء" لتتفاوض معهم، لوقف هذه الأزمة (الأزمة السياسية الاجتماعية الأعمق منذ وصول ماكرون إلى الإيليزيه)، التي لا يزال الفرنسيون في غالبيتهم يؤيدونها، ولا تزال أغلبية مستعدة للصبر ومواصلة الاحتجاجات، أي ليس لديها ما تخسره. ولعل إبداء بعض المرونة، كما يطالب نواب كثيرون من الحزب الحاكم ومن حليفته "الحركة الديمقراطية"، قد يساعد على انبثاق جبهة معتدلة، وهو ما يعني تهميش العناصر الراديكالية.
ولكن هذه المرونة قد لا تصل إلى مستوى وقف الانتقال الإيكولوجي، الذي يصرّ الرئيس ماكرون ووزراؤه على أنه غير قابل للتغيير، خصوصاً أنّ الجميع لاحظ تركيز ماكرون من العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، على حتمية الانتقال الإيكولوجي، في وقت كانت فيه باريس تحترق. ويمكن أن تقبل الحكومة بالتخلي عن زيادة يناير في المحروقات، وقد تتّخذ مسارات "المُرافَقة الاجتماعية" للمتضررين من هذه الزيادات، من عمال ومتقاعدين، أي دعم القدرة الشرائية، التي أخرجت كل هذه الفئات الاجتماعية إلى الشارع، والتي تعترف أغلبية منها بأنها لم تتظاهر من قبل.
وإذا كان الاشتراكي أوليفييه فور، وهو أول من استقبله رئيس الحكومة، صباح أمس الاثنين، قد خرج بانطباع متشائم بعض الشيء، عكس تردد الحكومة وعدم معرفة ما يجب فعله إزاء أزمة متواصلة منذ ثلاثة أسابيع، فإنّ ذلك كان انطباع النقابات العمالية أيضاً التي استقبلها رئيس الحكومة، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أي قبل "السبت الأسود"، في إطار الاستشارة الكبرى التي أعلن عنها ماكرون يوم الثلاثاء الماضي، والتي ستستغرق ثلاثة أشهر.
فحتى لوران برجيه، زعيم نقابة "سي إف دي تي" الإصلاحية، والمستعدة لإبرام صفقات مع الحكومة، حذّر بعد لقاء رئيس الحكومة من "ألا تكون المشاورات لعبة خداع". أمّا الأمين العام الجديد لنقابة "قوة عمالية"، إيف فيريي، فقد أعلن توجسه من الاجتماعات الكبرى التي تشرك الجميع، وقال "أخشى أن تكون من أجل خلق الغموض". كذلك، طلبت نقابة "سي جي تي" (الكونفيدرالية العامة للعمل في فرنسا) من الحكومة ألا تلعب مع الزمن حتى إنهاك الحركة، واعتبرت أنّ "الحكومة لا تقدّر حقيقة ما يجري في البلد".