في مثل هذا الأسبوع من العام الماضي، تابع أكثر من مليون ونصف مشاهد مناظرة فكرية غير مسبوقة على التلفزيون، جمعت بين المفكر المغربي عبد الله العروي (1933) ورجل الأعمال نور الدين عيوش، لمناقشة موضوع تعويض اللغة العربية الفصحى بالدارجة المغربية في برامج التعليم، بناء على توصيات مذكرة صاغها رجل الأعمال ورفعها إلى القصر الملكي.
لم يكن المثير في الحدث هو المناظرة في ذاتها، وإنّما قبول المشاركة فيها من طرف مفكر مثل عبد الله العروي، الذي نادراً ما يظهر في الإعلام أو يشارك في النقاش العام. آنذاك، تساءل الجميع لماذا يخرج العروي من عزلته، في هذا الوقت بالذات، ليدلي بدلوه في نقاش من هذا النوع؟ هل لأن قضية اللغة تمسّه شخصياً، هي التي طالما كانت ضمن نشاطه الفكري ومحوراً للعديد من أطروحاته، أم أن للأمر دوافعاً أخرى لا يعرفها سواه؟
قبل موعد المناظرة بأسابيع، كان النقاش الوطني حول هذا الموضوع قد اشتدّ بوتيرة غير متوقّعة، وطغا على غيره من المواضيع، حتّى صار العنوان الأبرز لمعظم الصحف، ومحور مناقشات واهتمام نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي، وحتى رجال السياسة.
وقد فسّر بعضهم ذلك في حينه بخطورة الانعكاسات الاجتماعية والثقافية على البلاد إذا ما تمّ الإقدام على هذه الخطوة أو تبنّيها سياسياً، خصوصاً أن المسألة اللغوية في المغرب ذات حساسية خاصة، ولها ارتباط وثيق بالهوية الوطنية منذ الاستقلال، فضلاً عن المشاكل البنيوية للتعليم الذي يعيش وضعاً كارثياً منذ عقود.
عموماً، جرت تلك المناظرة بشكل طبيعي وأدلى كل طرف بوجهة نظره بحرية، لكن ما علق في الذاكرة ذلك المساء هو إطلالة العروي على الجمهور المغربي، خصوصاً جمهور المثقفين والمهتمين، الذين اعتبروا الأمر حدثاً فريداً، بغضّ النظر عن موضوع النقاش، ولحظةً ثقافية متوهّجة في زمن القحط الفكري والانحطاط الإعلامي في البلاد.
وقد كان طبيعياً، بعد انتهاء تلك المناظرة، أن ينقسم الرأي العام الوطني بين مؤيد ومعارض لما أدلى به الطرفان. فإذا كانت مداخلات العروي، المدافع عن الفصحى لغة للثقافة والتعليم، أقنعت منافسه خلال معظم فترات اللقاء، باعتمادها التحليل العقلاني المستند على اجتهادات فكرية وشواهد تاريخية من تجارب دول أخرى؛ فإن دعوة غريمه، في المقابل، وهو المعروف باشتغاله في مجال الإشهار، قد تركت انطباعاً سيّئاً بأنها مجرد فقّاعة إعلامية للتّسويق لا أكثر، وليست دعوة حقيقية وصادقة لتغيير لغة التعليم. والدليل أنه، بعد أشهر قليلة، تراجع عن مطلبه السابق، ودعا فقط إلى تبنّي الدارجة في برامج التلفزة بشكل أوسع.
أمّا بالنسبة إلى العروي، على عادته في التريّث، فإنه انتظر شهوراً طويلة بعد المناظرة، وحين أُعيد طرح السؤال عليه حول هذه القضية، في مناسبة حوار أجرته معه مجلة "النهضة"، في آب/ أغسطس الماضي، كان جوابه: "لو نجحت المحاولة لعُدنا بالفعل إلى حظيرة المجتمعات التي انتقلت، أو تحاول أن تنتقل، من البداوة إلى الحضارة، حسب التّعبير الخلدوني [...]".
ثمّ أضاف: "يبدو المقترح تربوياً صرفاً، لا يمسّ في شيء الثّقافة العامة. وهذه مغالطة. لا بدّ أن يؤدّي تطبيق المقترح إلى نتائج ثقافية على المدى المتوسّط. بعد سنوات قليلة تضمحلّ علاقتنا بالتراث العربي الكلاسيكي. كُنّا، وربّما لا نزال، على وشك ارتكاب هذه الخطيئة".
من هذا الردّ، يبدو جليّاً أن العروي لا يبرّر فقط أنه كان محقاً في قبول المشاركة في تلك المناظرة دفاعاً عن اللغة العربية، وإنما يعيد تحذيره السابق من عاقبة الانسياق وراء دعوة تكريس الدارجة لغةً للتعليم والثقافة، لأنّ ذلك سيكون خطأ عظيماً.
ويمكن أن يُستشفّ من كلامه ما هو أعمق من ذلك، وهو أن الخطر على الهوية اللغوية كان وما يزال قائماً حتى الآن، لأن المتربّصين باللغة العربية كُثر، وهم خليط من اللّوبيات الفرنكفونية والأمازيغية ورجال الاقتصاد والأعمال، ويتزايدون يوماً بعد يوم، ولا تعوزهم الحيلة ولا الأموال لتحقيق ذلك في يوم من الأيام.