حين تصيب نفسك بفأس أثناء تقطيع الحطب
لا يخطرنّ الشعر على بالك في تلك اللحظة
ولا المآثر العظيمة
ولا السياسة
فلستَ تتحدى الرب
وأنت الصغير كحبّة بازلاء
تنتظر أن ينجلي عنك
هذا الوجع.
عندما تخترقك شظية
من قنبلة هاون
لن تفكر بالأثر
الذي تتركه لدى النساء
أو بالنشيد الوطني
إنما تزحف تحت صخرة
وتنتظر أن ينجلي عنكَ
هذا الوجع.
لحظةَ ينغلق وراءك
بابُ السجن الاحتياطي
ــ لحظةَ تفكر بالحرية.
صحوة الربيع
إنه يوم الشعر العالمي،
حين لا يطيبُ أن ألتقي بالشعراء
بل أصحب كلبتنا لونا إلى المنتزه.
ثمة فراشة صفراء واحدة
ــ برَسْم أول أيام الربيع ــ
ترسم مدارَ حريتها ما بين الأرض والسماء.
نبدو كأنما قُددنا جميعاً من الشمس،
ولو أن منبعَ الشعر
في عالمنا باقٍ طيَّ الغياب.
وكما ترسم تلك الفراشة مدارها في الهواء،
ثمة هذه النظرة الخاطفة أمامك قبل
أن تغيب إلى الأبد.
الطغاة
يمشي الطغاةُ بخطى عسكرية
كأشباه بشر في سيرك آليّ.
لم تُنفَخ الروح في أرجوحة دوّامة الخيل
عن طريق الكهرباء أو طاقة صنعية أخرى.
إنما تزودت بوقود من إرادتنا، أو بالأحرى
فقداننا الإرادة.
يُخلَعُ الطغاة عن عروشهم
لاستنفادهم الأداة،
أو لأنهم يصبحون فريسة
لأبناء جنسهم،
وقد يقتلون أنفسهم أحياناً، أو
يضمحلّون في العذوبة الهانئة التي ترافق التقدّم في العمر.
لكنه جشعنا ذاك الذي يعيد تدويرهم،
فهم منتحلو الآمال
التي لم نصلْها
في شبابنا.
كِتاب الكتب
هناك شعراء يكتبون
الكتابَ الوحيدَ ذاته على امتداد حياتهم: كتاب
حول نهاية العالم – حين يرحلون.
ذلك ما يجعلهم مثل الأنبياء
الذين يهزّون الأرض وهم يوجهون ركلاتهم إليها
بعصيّهم المليئة بالعقد لكي
يعترضوا تقدّم الزمن.
لكن، خلافاً للأنبياء، يدرك الشعراءُ أن الزمنَ
في واقع الأمر يتجمد
أثناء عبورنا فيه.
وعلى عكس الشعراء، أُوكِلَ الأنبياء
بأن يخطّوا كتاباً واحداً، الكتابَ الذي
يكتبه الشعراء المرةَ تلو الأخرى،
وهم يحسبون أنه كتاب جديد.
داخل الدوائر
(كتبت حين عدت لزيارة عائلتي في ريو دي جانيرو بعد نهاية الحرب في كرواتيا)
يبدو لي أحياناً كأنني أعيش في الوقت المستقطَع
فقد مات أصدقائي وتشتتوا في المقابر
مُسِحوا عن اللوح هكذا بلمحة عين، حتى دون أن يبلغ أحدهم الثلاثين
أولئك الناس الذين اقتسمتُ معهم الرغيف
أولئك الناس الذي نمتُ وإياهم في السواتر
أولئك الناس الذين مشيت معهم فوق العشب ذاته، تسلقنا الدبابات ووقعنا ليصطدم وجهي بالأرض ثم ينهمر فوقي وابل الرصاص والقذائف
و"يا أيتها الأرض الوادعة العذبة أنت تحفظين دعاءنا"
لا تني ظلالهم تؤوب بآخر أصداء أصواتهم:
"ألديكم المزيد من العصير؟" يسأل ذلك الذي سيموت في هجوم
"اعتنِ بأخي"، يقول آخر سيُقتَل بنيران دبابة
ثم ثالث يحاول أن يتذكر مَن هو ومن أين جاء
ودماغه ينطفئ ببطء (كان قد أصيب في الرأس)
"ماذا يوجد هناك؟" يتساءل الرابع ويده تقبض على كأس نبيذ أحمر
وقد تعلقت أنظاره بأعلى التلّ حيث أُعدَّ له كمين
والخامس غارق في الصمت لكنّ عينيه قادرتان على تهجّي كلمة:
موت.
أشعر أحياناً وكأنني حطمتُ السلاسل
أفيق في منتصف الليل متلهفاً للهواء
فأسمع همهمة الطوابق الأربعة عشر من خلال النافذة
(رائحة اللحم المحروق تنبعث من التوابيت الخشبية)
يسوع المخلِّص جرحٌ طريّ باقٍ وسط الغيوم السوداء
واليراعاتُ تُسرعُ ، تلعنُ وتمجّدُ
زمناً اغتذتْ فيه الخنازيرُ على اللحم البشريّ
هناك ذلك البيت الذي كان في ما مضى، منذ مائة عام، ذا لون أزرق
والآن آلَ أنقاضاً دون سقف، ونوافذَ دون مصاريع كالمحاجر الفارغة
محطَّمَ الداخل لكنه بطريقة أو بأخرى يضج بالحياةِ في الليل
والشرفات المنسيّة تحفل بالزهر والضوء
بينما تتكئ النساء المتشحات بالسواد اللواتي اعتمرن العمائم على
السياج الصدئ وثمة أصداء خافتة لحديثهن
تهمس أن هناك ثلاثمائة ألف قتيل في تلك الحقول
حيث ضاع نعلا حذائي
حيث غاصت عيناي في وحل الكون
حيث كان قلبي مثل حبل معدني انقطعَ عن مرساته
فمضى يئزّ ويسوطُ الهواء في دوائرَ متهورة:
دون وجهة له، أبداً.
البوابات الكبيرة للحرب
(إلى دافور سيفيتش)
سافرنا ألفي ميلٍ عبر أوروبا
في سيارة فتانا الذهبي روبي، الـ كاديت القديمة:
كنا نحن الثلاثة
ندخن ونستمع إلى المذياع،
وقد انفرشتْ سهام ضوء طويلة
على امتداد الطريق المبلل. الأميال تنطوي وراءنا
ثم تبدأ طلائع الليل؛ ولا نتوقف
إلا لتبادل القيادة، لنتابع السفر بكل اللهفة.
نشرب وندخن ونستمع إلى المذياع
هكذا نستقبل ضوء النهار. تمتد السماء فسيحةً
وأنت تقول،
أربعون عاماً، هو الرقم القريب من الحقيقي. ولستُ أطلبُ المزيد،
فهذا عمر طويل تمضيه في حياة واحدة.
بعد برهة ثمة قنبلة مضادة للدروع قرب دوبروفنيك
ستعلو بك إلى الجو؛ وها قد عشت ثلاثة وعشرين عاماً، وليس أربعين.
منذ سبع سنوات
قدنا السيارة عبر أوروبا بلا كلل
حتى بلغنا حاجزَ تشِتنيك في بليتفيس.
كان عيد الفصح
حين عبرنا البوابات الكبيرة للحرب.
في صورتك اليتيمة التي التقطتها باللباس النظامي
تطلّ تلك النظرة الفضولية، وكأنك تستشرف الآتي.
وعلى الجدار فوق صورتك ثمة وميضُ ضوء أبيض
طالعٌ من الروح
كليّة الوجود.
* سجّل الشاعر Tomica Bajsić (زغرب، 1968) تجربة الحرب في مجموعته الأولى، "الصليب الجنوبي"، التي صدرت عام 1998، وواصلها في مجموعاته الشعرية الأخرى، وكذلك في عمله كمحرر حين قدّم أنطولوجيا بعنوان "نقوش"، ترجم فيها قصائد لـ300 شاعر من العالم ولا سيما من أفريقيا. لا تقدّم هذه القصائد شهادتها ضد الحرب فقط، وإنما ضد الاستبداد والعبودية، والأخيرة تعرف - كما يقول الشاعر- كيف تنتقي أزياءها المعاصرة.
** ترجمة أحمد م. أحمد