يجدر بالمرء أن يعترف أنه يُجبَر أحياناً على التفكير في مسائل مزعجة. ويجدر به أن يعترف أن هذا الإزعاج ليس عابراً لأنه بشكل ما يضرب في جذوره واستقراره، وقد يحدث أن يفرز هذا التأثير النفسي حالة من عدم التوازن، فيُنكر المرء الأسئلة برمتها ويهمّشها، غير أن هذا التهميش - في الحقيقة - ليس سوى إيهام بالتهميش.
سؤال الهوية مثلاً، أعتبره من المسائل المزعجة بشكل شخصي؛ سؤال سقط عليّ مبكراً فهو لا يعدّ من الأسئلة التي يختار المرء التورّط فيها خلال سنوات نضجه، خاصة حينما يجد نفسه وسط سلسلة طويلة من الهويات التى أسقطت عليه أثناء حياته، وتحرّكه بشكل قلق للبحث عن جذوره ويكون سؤال مثل: ما جدوى البحث عن الجذور؟ سؤالاً متأخراً بعد التورّط الذي حدث بالفعل.
كنتُ صغيرة أتعلم بالكاد قراءة الأحرف العربية، حينما ذهبت لأحفر قبراً لقطتي في بيت جدي المهجور، ووجدت دون عناء بالحفر عملاتٍ معدنية غريبة لم تكن من فئة العملات التي كنت أحصل عليه في ذلك الوقت كمصروف، كانت عملات بخط مختلف عن خط النسخ الذى أكتب به واجباتي المدرسية. الكتابة تكاد تكون ملتصقة، وكان محفوراً عليها رجل يرتدي طربوشاً.
علمت من والدي الذي استبشر فرحاً حينما رأى العملات أن هذه العملات أثرية من أيام محمد علي باشا، ولأني وجدت العملات في بيت جدي ظننت أن محمد علي باشا جدي دون شك، كنت حينما أسطّر اسمي أذيّله بمحمد علي باشا بفخر شديد، فيضحك من يسمعني أورد اسمي على هذا النحو، حتى علمت بعدها أن محمد علي ليس جدي، ولا يحزنون، إنما جد أسرة إسلام باشا الذين يسكنون السرايا في قريتنا. كانت خيبة أمل كبيرة لطفلة ظنّت محمد علي باشا جدّها وكان هذا أول اصطدام بمسألة الهوية.
لا أدري إن كنت التقطت الارتباط بين مسألة الهوية ومسألة الأسلاف بعد هذا الموقف أم من مواقف أخرى لاحقة، لكن المؤكد أنني أدركت منذ طفولتي أن الماضي ومن عاشوا فيه من أقاربنا هو أمر بالغ الأهمية. هو تعريفي وبطاقة هويتي وهو ما يتحتم البحث عنه والتمسّك به والحاضر أو الآن ما هو إلا فرصة لنسترجع فيها هذا الماضي وننشغل به.
كنت أظن أن عائلتي هي المهووسة وحدها بفكرة الجذور. هوس بكل ما يرتبط به من مستوى عال من عدم المنطقية، كأن تجتمع العائلة الكبيرة من أعمامي وحولهم الأطفال وأنا منهم ليفتحوا لفافة أسطوانية طويلة من الورق يقارب طولها العشرة أمتار، مقدار طول ثلاثة طوابق، ليتحدثوا عن نسب عائلتنا الصوفية الذي يمتدّ إلى الأشراف من أهل الجزيرة العربية، وهم نفس العائلة التي تعتبر الفراعنة جدودها، والأتراك أيضاً من الجدود. وفي نهاية المطاف أكتشف أن إحدى جداتي كانت تسمى "ريد" وهو اسم سوداني بامتياز، مما قد يؤكد احتمالية أن يكون كل ما يتحدثون عنه هراءً وأن نسبي سوداني ودعونا نبحث من جديد لكن هذه المرة في السودان!
كل هذا يمكن استذكاره من باب الهراء العلني الذي يجعل من مسألة البحث عن الهوية والجذور مسألة معرفية يشوبها قدر عال من اللامنطق والتعنّت، كما للتعددية من وجه غير منطقي ومتعنّت، ورغم ذلك للهوية جانب سحري غامض يجعل تجاهلها أمراً صعباً، ربما هي السحرية النابعة من الماضي والتراب الكثير المتراكم عليه، لكن هناك جاذبية أعلى من جاذبية الهوية ذاتها وهي أن يكون للمرء هوية سرية، أو أن يكون المرء في صراع فعلي ضار بين أكثر من هوية.
كانتا فتاتين تجمع بينهما سمات مشتركة رغم أن إحداهما من الصعيد والأخرى إسكندرانية من بحري، وكلتاهما لم تلتقيا، التقتا وكلتاهما في مرحلة زمنية مختلفة ومرحلة وعي مختلف، كانتا تشبهان بشكل كبير شخصيات متمردة لديها الرغبة في ركل "الوطن" بأكمله بكل هوياته طالما هوياتهن سرية على هذا النحو، الاثنتان لهما شعر أشقر وبشرة بيضاء ناصعة، الصعيدية كانت تعبر بمقولات صريحة لي أنها تكره هذا البلد وكم تتمنى لو عاد الزمان وعاشت مع جدودها الأتراك ورحلوا جميعاً من مصر بلا عودة.
كانت تكره مصر، فإلى جانب أنها لا تراها بلدها الأم كانت تراها قاتلة للأحلام وشبحُ الفقر يجعل مواطنيها في حالة سعار للهرب من العطالة وضيق الحال. فهمتُ وقتها أن تضخّم الهوية التركية بداخلها كانت له أسبابه الاقتصادية وتساءلت ماذا لو لم تكن فعلاً مصر قاتلة للأحلام ويعيش أهلها في رخاء، هل كانت ستحفر بحثاً عن جذورها التركية وتبرزها على السطح؟
أما الإسكندرانية فكانت تعيش في عالم مواز تقول إنها تطمئن لجذورها اليهودية وتفخر بها - طبعاً في السر - و هذا السر لن تجرؤ على الإفصاح به لعائلتها المسلمة المتدينة، حتى خلقت لها هذه الهوية السرية نوعاً من الدروشة حين تهبط إلى القاهرة وتجوب في حارة اليهود وتقول، إن أحد الأماكن سمّي على اسم جدّها، هكذا اكتشفت من أوراق قديمة للعائلة.
رغم أن أمين معلوف تحدّث عن مسألة الهويات في كتابه "هويات قاتلة" باعتبار أن الهوية لا تتوزّع أنصافاً أو أثلاثاً بل هوية واحدة تتجانس وفق معادلة داخلية معينة من الوعي، إلا أنني على أرض الواقع لم أجد هذا ممكناً بالشكل النظري المثالي الذي طرحه معلوف أو على الأقل هو أمر بالغ الصعوبة.
أمين معلوف نفسه أتذكره من زياراتي لـ "المركز الثقافي الفرنسي" كان يقول، إنه ابن الثقافتين الفرانكفونية والعربية على السواء، وأجد أمامي مصريين كثيرين يهربون إلى المركز الثقافي الفرنسي كمهرب من هوية إلى هوية أخرى. بعد هذا، كيف يمكنني استقبال فكرة التعددية أو التجانس كأنها أمر ممكن.
حتى أن ذلك الانسلاخ الذي يسمون به مثقفاً مَن انتمى إلى ثقافة غير ثقافته التي نشأ فيها أجده أمراً صادقاً وواقعياً لأنه يعني انتصار هوية على أخرى وإزاحتها، وصراع الهويات دائماً ما يسبق التعددية وينتصر عليها مثلما ينتصر الواقعي على الفانتازي في أغلب المناورات.
مؤخراً، تجاوزت ما نظر له أمين معلوف بشأن الهويات حين وقع تحت يدي كتاب بالغ الأهمية للمفكر الألماني دييتر سنغاس بعنوان "الصدام داخل الحضارات.. التفاهم بشأن الصراعات الثقافية" كانت استعمال مفردة "تفاهم" ينم عن ذكاء بالغ حتى أنه اعتبر مفهوم التعددية مصطلحاً مسيّساً برز أثناء الثورة الثقافية في الصين الغرض منه إدارة الفوضى والحث على العودة لماضي طوباوي أو بمعنى آخر وفق المفهوم الصيني "جمع الشرور والفوضى التي يتعين دائماً فهمها باعتبارها أشياء علينا كبحها والتحكم فيها وليست أشياء ذات قيمة".