حين يتحدث بارزاني عن الدولة الكرديّة

06 يونيو 2014

بارزاني في باريس لدى وصوله إلى الإليزيه (مايو/2014/فرانس برس)

+ الخط -
لمّح رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، في الفترة الماضية، مرات عديدة، إلى احتمال إعلان استقلال إقليم كردستان، تارة باسم حق تقرير المصير، وأخرى لتفاقم الخلافات المزمنة مع حكومة نوري المالكي. لكن، بغض النظر عن هذه المبررات، فإن إقامة دولة كردية، في حقيقة الأمر، حلم قومي كردي قديم متجدّد، ليس في كردستان العراق وحدها، بل في عموم مناطق الوجود الكردي في الشرق الأوسط (العراق، إيران، تركيا، سورية). ولعل الهاجس الذي يشغل بال القيادة الكردية، وتحديداً مسعود بارزاني، هو متى إعلان هذه الدولة؟ وفي أي ظروف؟ وهل الحلم بات ممكناً في الواقع؟ والسؤال الأهم، ماذا عن العقبات والتداعيات؟ من دون شك، يفكر البارزاني بكل هذا مليّاً، فهو يريد أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي ينجح في تحقيق الاستقلال للأكراد في العصر الحديث.
اللافت، هنا، هو أنه كلما تأزمت العلاقة بين بغداد وأربيل، تعالت الأصوات الكردية الداعية إلى البحث عن المصير الكردي خارج العراق، ويعتبر الأكراد ذلك حقاً طبيعياً لهم، في إطار حق تقرير المصير، في حين لا يتوانى بعضهم عن وضع هذا الخيار في خانة النزعة الانفصالية المضمرة، فيما يسأل آخرون عن جدوى إقامة دولة كردية قومية، في زمن تراجع الأيديولوجيا القومية لصالح الدولة التعددية الديموقراطية، وخصوصاً أن إقليم كردستان العراق يعيش في وضع دولة حقيقية على الأرض، ومشاركة فعالة في السياسة العامة للعراق، من بغداد. وفي جميع الأحوال، لا يلغي هذا الجدل المتعاظم، ولا يقلّل، من أهمية تضافر جملة عوامل باتت تشكل أسباباً ومقومات لإعلان دولة كردستان، ولعل من أهم هذه الأسباب والمقومات:            
1- تفاقم الخلافات بين أربيل وبغداد على قضايا عديدة، لعل أهمها النفط والمادة 140 من الدستور بشأن مصير كركوك، والمناطق الحدودية المتنازع عليها، وأخيراً، قضية رواتب موظفي إقليم كردستان التي أعلن المالكي وقفها. ولافتة هي هذه اللهجة الندية والقوية للقيادة الكردية التي تصر على الشراكة الكاملة، وتحقيق المطالب الكردية، من دون نقصان، وإلا فإن البحث عن المصير الكردي خارج الشراكة العراقية يصبح أمراً محتّماً.                                                                             
2 - تجربة الحكم الناجحة نسبياً في إقليم كردستان العراق، وهي باتت تغري الأكراد للاستفراد بإقليمهم، بعيداً عن العراق ومشكلاته الداخلية العديدة، حيث تصاعد العنف بشكل غير مسبوق في غرب البلاد.

3- توفر الموارد الأولية من نفط وغاز ومياه وعلاقات تجارية قوية، خصوصاً مع تركيا التي بدأت تصدّر النفط الكردي بشكل مستقل، ومن دون موافقة بغداد، وذلك كله يعطي الإحساس بالقدرة على الاستقلال، وامتلاك مقوماته وممارسة الكيانية.
4 - مناخ الثورات العربية، والتي فجرت مطالبة الشعوب بالحرية، وطي صفحة الاستبداد، مهما كانت طبيعته وشكله.                                       
5- تجربة استقلال جنوب السودان، والتي تبدو بالنسبة لأكراد العراق مشجعة ومغرية، وخصوصاً أنها تحققت بموافقة المركز (الخرطوم) والدول الإقليمية المجاورة والمجتمع الدولي من دون إراقة الدماء.
في الواقع، أنضجت هذه العوامل مجتمعة المطالبة السياسية لدى الجماهير الكردية بالاستقلال، وما تعاظم دور حركة الاستفتاء ودعمها القوي لهذا الخيار إلا تأكيد على هذا التوجه، ومَن يدقّق في ظروف تصريحات بارزاني بشأن الاستقلال، يرى أنها تشكل انعكاساً لتنامي هذا الخيار في الداخل الكردي، إذ بات هذا البعد الداخلي أمراً أساسياً لمصداقية القيادة الكردية، ما يعني أن ذلك أصبح عاملاً داخلياً مهمّاً في الانتخابات وإنتاج السلطة - الدولة.                          
عقبات وخيارات
من دون شك، لا يعني الحديث عن هذه المقومات والأسباب أن الظروف باتت مهيأة لإعلان مثل هذه الدولة، فالثابت أنه على الرغم من انشغال الدول الإقليمية، ولا سيما إيران وتركيا، بقضاياها الخاصة، إلا أن قيام مثل هذه الدولة يعني تغيير خريطة الشرق الأوسط، وقلب خريطة الحدود التي وضعتها اتفاقية سايكس ـ بيكو في نهاية الربع الأول من القرن الماضي، وتداعيات مباشرة على أمن دول المنطقة التي لن تقبل إقامة دولة كردية، فضلاً عن أن الغرب لن يقبل بسهولة مثل هذه الدولة، ما لم تقدم خدمة استراتيجية له. ولكن، على الرغم من هذه العقبات، فإن الآمال الكردية تبقى حية، تبحث عن السيناريو الأفضل لتلمّس طريق هذه الدولة. ولعل أهم هذه السبل:
1- خيار الاستفتاء على شكل استلهام، أو تكرار، لتجربة جنوب السودان، بما لهذه التجربة من ميّزات إيجابية ومعطيات متوفرة، لجهة تراكم الخبرة، وتشابه العلاقة مع المركز. فخلال العقود الماضية، عقد الأكراد سلسلة اتفاقيات مع بغداد، كانت أبرزها اتفاقية مارس/ آذار عام 1958، والتي نصت، وللمرة الأولى، على إقامة حكم ذاتي للأكراد، ومن ثم استفادتهم  الكبيرة من إقامة منطقة حظر جوي في شمال العراق، بعد حرب العراق الأولى عام 1991، والتي منها انطلقت أولى خطواتهم لبناء مؤسساتهم الخاصة، فكانت الانتخابات التشريعية عام 1992 وتأسيس أول برلمان محلي، ومن ثم حكومة محلية، فباقي المؤسسات من جيش وأمن واقتصاد وتعليم وبنى تحتية، وصولاً إلى الدستور الجديد الذي أقر بعراق فيدرالي، نشأ في ظله حكم إقليم كردستان، والذي هو في الحقيقة أكثر من فيدرالية، وأقل بقليل من دولة. وكل هذا يدفع بالأكراد حثيثاً إلى البحث عن خيار الاستفتاء على مصير إقليمهم، على أمل تكرار تجربة جنوب السودان في الاستقلال.     
2 - التوجه إلى الأمم المتحدة، على غرار التجربة الفلسطينية، لنيل اعتراف أممي بالدولة الكردية، وعلى الرغم من التعاطف الدولي من خارج المنطقة، وتحديداً من أميركا وأوروبا مع القضية الكردية، مع أن الأكراد يدركون صعوبة مثل هذا الخيار، نظراً إلى قناعتهم بكثرة عدد الدول العربية والإسلامية التي قد تقف في وجه مطلبهم هذا، فهذه الدول تخشى، في العمق، من موجة حركاتٍ لها مطالب بحكومات محلية تتعدد أشكالها، وقد تكون مدخلاً لتقسيم دول المنطقة، وعليه، قد تتحفظ على مسألة الاستقلال الكردي، من دون أن يعني ذلك رفضها الحقوق الكردية، في إطار وحدة دول المنطقة التي يوجد فيها الأكراد.
 3 - الإعلان من طرف واحد، خصوصاً إذا تفاقمت الخلافات مع بغداد على القضايا الخلافية، ولا سيما كركوك والنفط، وعلى الرغم من سهولة هذا الخيار، فإنه لا يحتاج سوى إلى بيان رقم واحد لإعلان استقلال الدولة الكردية، إلا أنه يبدو الأكثر كلفة، لجهة التداعيات والمخاوف الكثيرة.
الثابت أن هذه المقدمات والعوامل والأسباب والخيارات تشكل معاً ما يشبه عجينة دسمة للتطلعات الكردية في إقامة دولة مستقلة، والثابت، أيضاً، هنا، أن مسألة إقامة هذه الدولة انتقلت من الأحلام والمستحيلات إلى تلمّس طريق الواقع، بحكم الظروف والمتغيّرات. ولعل هذا ما يقف وراء قول مسعود البارزاني مراراً: الاستقلال آتٍ لا محالة.

 

55B32DF5-2B8C-42C0-ACB3-AA60C835F456
خورشيد دلي

كاتب سوري، عمل في قنوات تلفزيونية، صدر له في 1999 كتاب "تركيا وقضايا السياسة الخارجية"، نشر دراسات ومقالات عديدة في عدة دوريات وصحف ومواقع إلكترونية.