24 أكتوبر 2024
حُلم الفيدرالية الكردي تنقضه وقائع الجغرافيا في سورية وديموغرافيتها
تزامنًا مع تصريحات روسية وأميركية ملتبسة، بإمكان إقامة دولة فيدرالية (اتحادية) في سورية، واستفادةً من حال الإنهاك التي أصابت أطراف الصراع السوريين، أعلنت قوىً سياسية كردية، في مقدّمتها حزب الاتحاد الديمقراطي "الكردي"، في اجتماع عُقد في مدينة الرميلان، في محافظة الحسكة، في 17 مارس/ آذار 2016، قيامَ "الاتحاد الفدرالي" بين ما سُمِّيَ أقاليم "روج آفا" (غرب كردستان) و"أقاليم شمال سورية". وانتخب المجتمعون لجنةً من 31 شخصاً لوضع أُسس "الفيدرالية" خلال ستة أشهر في مؤتمر تأسيسي، يُعقد من أجل تصديقها. وأعلن زعيم الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، أنّ الكيان الفيدرالي المذكور لن يقوم على أساس جغرافي، بل على أساس ديموغرافي (إثني). ويغطي الإقليم المنشود نحو 10% من أراضي سورية وثلاثة أرباع حدودها مع تركيا، وتسيطر عليه فعليّاً مجموعات تابعة للاتحاد الديمقراطي.
الطريق إلى الفيدرالية
مع انطلاق الثورة السورية واتساع نطاقها، انضمّ جزء من الأكراد السوريين إلى الثورة وهيئات المعارضة، في حين انصرف جزء آخر إلى استغلال الوضع، خدمةً لأجندات مختلفة. فقد أعلن الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب يساري - قومي متطرف أُسِّس عام 2003، ليكون بمنزلة فرع سوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، إنشاءَ "مجلس شعب غرب كردستان"، في 16 ديسمبر/ كانون أول 2011، وشرع في بناء جسم أمني وعسكري تضمّن "وحدات حماية الشعب" وجهاز شرطة (الأسايش)، فضلاً عن وحدات حماية المرأة. ويبلغ عدد هذه القوات مجتمعةً، في الوقت الراهن، نحو 50 ألف مقاتل. وقد سمح تشكيل هذه الأذرع الأمنية والعسكرية للحزب ببسط سيطرته على المناطق التي أخلاها النظام في أقصى شمال شرق سورية، ابتداءً من عام 2012.
استغل الحزب حالة الفراغ الناشئة عن انسحاب النظام، وأعلن في نوفمبر/ تشرين ثاني 2013، إنشاءَ مناطق إدارة ذاتية في ثلاث مناطق هي: الجزيرة في أقصى شمال شرق البلاد، وعين العرب شمالاً، وعفرين في الشمال الغربي. وأقام في كلّ منها مجالس تحاكي الوزارات وقوّةً شرطيةً، في خطوةٍ أثارت شكوكاً كثيرةً في الهدف النهائي الذي يسعى إليه أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي.
وبعد صعود تنظيم الدولة وتمدّده بين الموصل والرقة، لفت الأكراد انتباه الولايات المتحدة
الأميركية التي قرّرت استخدامهم في مواجهة تنظيم الدولة، وأوجدت لهم دعماً كبيراً مكّنهم من الصمود في معركة عين العرب، طوال أكثر من ثلاثة أشهر، ومن دحْر التنظيم بعيدًا عن المدينة في مطلع عام 2015. ومنذ ذلك الوقت، تحوّل الأكراد إلى طرفٍ محلّي رئيس في الإستراتيجية الأميركية الخاصة بمواجهة تنظيم الدولة، كما أنهم استفادوا من التدخل العسكري الروسي ضدّ المعارضة السورية في أواخر عام 2015، وسيطروا على مناطق لا يقطنها الأكراد، ولا مزاعم تاريخية لهم فيها؛ في إطار سعيهم إلى تحقيق تواصل جغرافي، يُمكّنهم من إعلان إقليم فيدرالي على أساسٍ جغرافي، أو على أساسٍ ديموغرافي، مثلما أعلن صالح مسلم. ويسعى الاتحاد الديموقراطي، حالياً، إلى بناء قوة عسكرية ضاربة (تصل إلى 100 ألف مقاتل) نتيجة توفر موارد اقتصادية مهمّة؛ وذلك بعد سيطرته على الحقول النفطية في الرميلان، ومعامل غاز في السويدية، ومحالج قطن في ريف الحسكة، إضافةً إلى سهول القمح وتجارة المواشي.
مأزق جغرافية الأكراد السوريين
على خلاف وضعهم في العراق، لا يقطن أكراد سورية منطقةً جغرافيةً محددةً، بل يتوزعون في مناطق واسعة من الجزيرة السورية التي استقطبت، في مطلع القرن الماضي، آلاف اللاجئين الأكراد الفارّين من تركيا، بعد تمرّد الشيخ سعيد بيران عام 1925. وبلغ عدد المُهجّرين الأكراد إلى الجزيرة السورية خلال الفترة 1925 - 1943 نحو 130 ألف نسمة، أنشأوا فيها مجتمعاً محليًّا يختلف جذريًّا عن "بنية المجتمع الكردي السوري التاريخية الشامية، والمندمجة في دورة حياة البلد، مثل الأكراد الأيوبيين في دمشق". لذلك، اعتمدت الحكومات السورية، في العهد الوطني، سياسة مراقبةٍ حذرةٍ في تسجيل المهاجرين، وقامت حكومة خالد العظم بإحصاء استثنائي في محافظة الحسكة في أكتوبر/ تشرين أول 1962، استند إلى سجلات قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945، واشترطت تلك الحكومات أن يكون المواطن مقيماً في سورية منذ ذلك الوقت، فسجّلت 85 ألف مقيم في محافظة الحسكة، وجرّدت 25 ألف نسمةٍ جنسيتَهم. ثمّ ارتفع عددهم، بمرور الوقت وبسبب الزيادة الطبيعية. وقد استقر أغلب أكراد سورية على طول الحدود مع تركيا في ثلاث مناطق متباعدة عن بعضها، هي المرتفعات الشمالية الغربية حول عفرين، وعين العرب في الشمال، والجزيرة في الشمال الشرقي.
ويفصل كانتون الجزيرة، الممتد بين المالكية ورأس العين، برزخ سكاني عربي واسع على
امتداد 130 كيلومتراً عن الكانتون الكردي الثاني في عين العرب، تتوسطه مدينة تل أبيض ذات الأغلبية السكانية العربية. في حين يفصل الكانتونين الواقعين إلى الشرق من نهر الفرات شريطٌ من المدن والمناطق العربية الممتدة غرباً حتى شمال حلب، وصولاً إلى الكانتون الثالث في عفرين. ويضيق القوميون الأكراد ذرعاً بتناثر مناطق إقامة الأكراد السوريين، وتوزُّعهم في ثلاث مناطق على امتداد نحو 800 كيلومتر على الحدود مع تركيا، ضمن عمقٍ ضحلٍ، لا يتجاوز أحيانًا 3 كيلومترات. غير أنّ التصوّر الرئيس لحزب الاتحاد الديمقراطي، وقوى قومية كردية أخرى، يؤكّد ضرورة أن يكون هناك تواصل جغرافي بين المناطق الكردية. وقد بدأ القوميون الأكراد يتداولون مصطلح "روج آفا" (أي كردستان الغربية) أخيراً للدلالة على مناطق سيطرة الأكراد السوريين؛ في محاولة للالتفاف على وجود الأغلبية العربية بين مناطقهم، بوصفها جزءًا من "كردستان الكبرى"، علماً أنّ مصطلح "كردستان الغربية" لم يَرد له ذكرٌ في أرشيف الحركة القومية الكردية، قبل أن يبدأ "الاتحاد الديمقراطي" استخدامه في الفترة 2003 - 2004.
أوجدت الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للقوى الكردية المغالية فرصةً على غاية من الأهمّية؛ وذلك في ما يتعلّق بتطلعاتها القومية لتحقيق التواصل الجغرافي المنشود بين كانتونات الإدارة الذاتية شرق نهر الفرات. فقد بذلت "قوات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ما في وسعها للسيطرة على مدينة تل أبيض، لتجاوز الوجود العربي الذي يفصل بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، وشرع الحزب منذ سيطرته على المدينة، في منتصف عام 2015، في إنشاء مؤسسات إدارة محلّية فيها؛ مثل بيت الشعب، وقوات الأسايش، مقدّمةً لوضعها في قلب الإدارة الكردية، على الرغم من أنّ تل أبيض لم تظهر في الخرائط الكردية إلا أخيراً، إذ ظهرت، أوّل مرة، في خريطة نوري بريمو أحد قادة حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد شملت هذه الخريطة كامل الشريط الشمالي لسورية، الممتد بمحاذاة الحدود التركية من المالكية شرقاً، حتى لواء إسكندرون غرباً (محافظة هاتاي التركية).
أمّا غرب الفرات، فقد حاولت "قوات سوريا الديمقراطية" التي جرى تشكيلها واجهة للتمويه على هويتها الكردية القومية بالتحالف مع عشائر عربية صغيرة، والتي تشكّل وحدات حماية الشعب عماد قوّتها، حاولت الاستفادة من التدخل العسكري الروسي الذي استهدف هزيمة قوات المعارضة السورية في ريف حلب الشمالي؛ وذلك بالتقدم شرقًا من عفرين والتمدد للاتصال بكانتون عين العرب الواقع شرق النهر، إلا أنّ هذا المخطط الطموح الذي يتطلب تنفيذه السيطرة على المنطقة الممتدة بين إعزاز وجرابلس تحول دونه عوائق عديدة، أهمها المعارضة التركية الشديدة، ووجود تنظيم الدولة، فضلاً عن أنّه يتطلّب سيطرة القوات الكردية على كامل الحدود الشمالية لسورية التي تشمل مدناً كبيرة يسكنها العرب؛ على غرار جرابلس ومنبج والباب ومسكنة ودير حافر، والسيطرة على مدن إعزاز وتل رفعت ومارع وأريافها في ريف حلب الشمالي، وهي معاقل مهمّة لقوات المعارضة السورية.
خاتمة
لا شك في أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي نجح، نتيجةً لسيطرته على بلدة تل أبيض في ريف
الرقة الشمالي الغربي، في تحقيق وصلٍ جغرافي بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، وسوف يجهد مستقبلاً في وصل هاذين الكانتونين بكانتون عفرين شمال حلب، عندما يتراءى له أنّ الأوضاع الميدانية والسياسية مواتية، خصوصاً في ظلّ حُظوته بدعم مشترك روسي – أميركي، شجّعه على إعلان الفيدرالية من جانبٍ واحدٍ.
وإذْ يحاول الحزب استغلال الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها سورية، وسط التدافعات الإقليمية والدولية؛ لتحويل مطالب الأكراد السوريين من مطالب خاصة بحقوقهم الديمقراطية الثقافية والإدارية التي لا يختلف أكثر السوريون عليها اليوم، وخصوصًا أنّ الظلم وقع على الجميع في عهد النظام الزائل، إلى مطالب فيدرالية قد تكون مقدّمة للتقسيم، فإنّ عليه أن يتجاوز مسألتين أساسيتين؛ أولاهما التعامل مع الوجود الديموغرافي العربي الكثيف في الخريطة الكردية المنشودة، وتبدو هذه المهمّة لنا صعبة التحقيق، زيادةً على تكلفتها التي قد تكون متمثّلة بمواصلة التطهير الإثني ضدّ العرب. وثانيتهما مرتبطة بمعارضة أكثر السوريين أيّ محاولات لتقسيم بلادهم، ما يعني أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي، والقوى القومية الكردية التي تلفّ لفّه، بصدد تقديم وصفةٍ لصراع عربي كردي طويل، لن تكون الأزمة الحالية، من دون شكّ، سقفَه الزمني. وإذا أضفنا إلى ذلك وجود معارضة إقليمية قوية لأيّ مشروع انفصالي كردي، فضلاً عن معارضة مختلف الأطراف السورية له، فإنّ أمل نجاح هذا المشروع يغدو ضئيلاً، حتى لو توفرت له إمكانات الدعم الدولي (روسي- أميركي) وأيدته معادلات القوة القائمة حاليًّا؛ لأنّ الجغرافيا هي الأمر الثابت الوحيد في السياسة، في حين أنّ القوة متغيرة.
كانت نقطة الضعف الكردية، منذ بداية القرن، متمثّلةً باستغلالها من جهة قوىً دولية في صراعاتها في الشرق الأوسط، قبل التخلي عنها عند أول منعطف. ولذلك، ينبغي عدم الاعتماد على ذلك اللقاء الأميركي - الروسي في دعم حزب قومي كردي متطرّف لمحاربة داعش. وفي المقابل، تكون المواطنة الديمقراطية الضامنة لحقوق العرب والأكراد في سورية. ولكن، لا يجوز انتقاد الأكثرية العربية بسبب أيديولوجيةٍ قوميةٍ لأحزابٍ حاكمةٍ عاناها العرب وغيرهم، ولا يجوز كذلك الإصرار على صيغةٍ أيديولوجيةٍ متطرفةٍ من جهة القومية الكردية، والتخلّي عن الوطنية السورية. فهذا ممّا لا يصلح أساساً لتعايش عربي – كردي، في إطار مواطنةٍ سوريةٍ ديمقراطية شاملة. وهذه المواطنة هي الخيار الوحيد البديل من حربٍ مستدامةٍ، يخسر فيها الجميع.
الطريق إلى الفيدرالية
مع انطلاق الثورة السورية واتساع نطاقها، انضمّ جزء من الأكراد السوريين إلى الثورة وهيئات المعارضة، في حين انصرف جزء آخر إلى استغلال الوضع، خدمةً لأجندات مختلفة. فقد أعلن الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب يساري - قومي متطرف أُسِّس عام 2003، ليكون بمنزلة فرع سوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، إنشاءَ "مجلس شعب غرب كردستان"، في 16 ديسمبر/ كانون أول 2011، وشرع في بناء جسم أمني وعسكري تضمّن "وحدات حماية الشعب" وجهاز شرطة (الأسايش)، فضلاً عن وحدات حماية المرأة. ويبلغ عدد هذه القوات مجتمعةً، في الوقت الراهن، نحو 50 ألف مقاتل. وقد سمح تشكيل هذه الأذرع الأمنية والعسكرية للحزب ببسط سيطرته على المناطق التي أخلاها النظام في أقصى شمال شرق سورية، ابتداءً من عام 2012.
استغل الحزب حالة الفراغ الناشئة عن انسحاب النظام، وأعلن في نوفمبر/ تشرين ثاني 2013، إنشاءَ مناطق إدارة ذاتية في ثلاث مناطق هي: الجزيرة في أقصى شمال شرق البلاد، وعين العرب شمالاً، وعفرين في الشمال الغربي. وأقام في كلّ منها مجالس تحاكي الوزارات وقوّةً شرطيةً، في خطوةٍ أثارت شكوكاً كثيرةً في الهدف النهائي الذي يسعى إليه أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي.
وبعد صعود تنظيم الدولة وتمدّده بين الموصل والرقة، لفت الأكراد انتباه الولايات المتحدة
مأزق جغرافية الأكراد السوريين
على خلاف وضعهم في العراق، لا يقطن أكراد سورية منطقةً جغرافيةً محددةً، بل يتوزعون في مناطق واسعة من الجزيرة السورية التي استقطبت، في مطلع القرن الماضي، آلاف اللاجئين الأكراد الفارّين من تركيا، بعد تمرّد الشيخ سعيد بيران عام 1925. وبلغ عدد المُهجّرين الأكراد إلى الجزيرة السورية خلال الفترة 1925 - 1943 نحو 130 ألف نسمة، أنشأوا فيها مجتمعاً محليًّا يختلف جذريًّا عن "بنية المجتمع الكردي السوري التاريخية الشامية، والمندمجة في دورة حياة البلد، مثل الأكراد الأيوبيين في دمشق". لذلك، اعتمدت الحكومات السورية، في العهد الوطني، سياسة مراقبةٍ حذرةٍ في تسجيل المهاجرين، وقامت حكومة خالد العظم بإحصاء استثنائي في محافظة الحسكة في أكتوبر/ تشرين أول 1962، استند إلى سجلات قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945، واشترطت تلك الحكومات أن يكون المواطن مقيماً في سورية منذ ذلك الوقت، فسجّلت 85 ألف مقيم في محافظة الحسكة، وجرّدت 25 ألف نسمةٍ جنسيتَهم. ثمّ ارتفع عددهم، بمرور الوقت وبسبب الزيادة الطبيعية. وقد استقر أغلب أكراد سورية على طول الحدود مع تركيا في ثلاث مناطق متباعدة عن بعضها، هي المرتفعات الشمالية الغربية حول عفرين، وعين العرب في الشمال، والجزيرة في الشمال الشرقي.
ويفصل كانتون الجزيرة، الممتد بين المالكية ورأس العين، برزخ سكاني عربي واسع على
أوجدت الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للقوى الكردية المغالية فرصةً على غاية من الأهمّية؛ وذلك في ما يتعلّق بتطلعاتها القومية لتحقيق التواصل الجغرافي المنشود بين كانتونات الإدارة الذاتية شرق نهر الفرات. فقد بذلت "قوات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ما في وسعها للسيطرة على مدينة تل أبيض، لتجاوز الوجود العربي الذي يفصل بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، وشرع الحزب منذ سيطرته على المدينة، في منتصف عام 2015، في إنشاء مؤسسات إدارة محلّية فيها؛ مثل بيت الشعب، وقوات الأسايش، مقدّمةً لوضعها في قلب الإدارة الكردية، على الرغم من أنّ تل أبيض لم تظهر في الخرائط الكردية إلا أخيراً، إذ ظهرت، أوّل مرة، في خريطة نوري بريمو أحد قادة حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد شملت هذه الخريطة كامل الشريط الشمالي لسورية، الممتد بمحاذاة الحدود التركية من المالكية شرقاً، حتى لواء إسكندرون غرباً (محافظة هاتاي التركية).
أمّا غرب الفرات، فقد حاولت "قوات سوريا الديمقراطية" التي جرى تشكيلها واجهة للتمويه على هويتها الكردية القومية بالتحالف مع عشائر عربية صغيرة، والتي تشكّل وحدات حماية الشعب عماد قوّتها، حاولت الاستفادة من التدخل العسكري الروسي الذي استهدف هزيمة قوات المعارضة السورية في ريف حلب الشمالي؛ وذلك بالتقدم شرقًا من عفرين والتمدد للاتصال بكانتون عين العرب الواقع شرق النهر، إلا أنّ هذا المخطط الطموح الذي يتطلب تنفيذه السيطرة على المنطقة الممتدة بين إعزاز وجرابلس تحول دونه عوائق عديدة، أهمها المعارضة التركية الشديدة، ووجود تنظيم الدولة، فضلاً عن أنّه يتطلّب سيطرة القوات الكردية على كامل الحدود الشمالية لسورية التي تشمل مدناً كبيرة يسكنها العرب؛ على غرار جرابلس ومنبج والباب ومسكنة ودير حافر، والسيطرة على مدن إعزاز وتل رفعت ومارع وأريافها في ريف حلب الشمالي، وهي معاقل مهمّة لقوات المعارضة السورية.
خاتمة
لا شك في أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي نجح، نتيجةً لسيطرته على بلدة تل أبيض في ريف
وإذْ يحاول الحزب استغلال الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها سورية، وسط التدافعات الإقليمية والدولية؛ لتحويل مطالب الأكراد السوريين من مطالب خاصة بحقوقهم الديمقراطية الثقافية والإدارية التي لا يختلف أكثر السوريون عليها اليوم، وخصوصًا أنّ الظلم وقع على الجميع في عهد النظام الزائل، إلى مطالب فيدرالية قد تكون مقدّمة للتقسيم، فإنّ عليه أن يتجاوز مسألتين أساسيتين؛ أولاهما التعامل مع الوجود الديموغرافي العربي الكثيف في الخريطة الكردية المنشودة، وتبدو هذه المهمّة لنا صعبة التحقيق، زيادةً على تكلفتها التي قد تكون متمثّلة بمواصلة التطهير الإثني ضدّ العرب. وثانيتهما مرتبطة بمعارضة أكثر السوريين أيّ محاولات لتقسيم بلادهم، ما يعني أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي، والقوى القومية الكردية التي تلفّ لفّه، بصدد تقديم وصفةٍ لصراع عربي كردي طويل، لن تكون الأزمة الحالية، من دون شكّ، سقفَه الزمني. وإذا أضفنا إلى ذلك وجود معارضة إقليمية قوية لأيّ مشروع انفصالي كردي، فضلاً عن معارضة مختلف الأطراف السورية له، فإنّ أمل نجاح هذا المشروع يغدو ضئيلاً، حتى لو توفرت له إمكانات الدعم الدولي (روسي- أميركي) وأيدته معادلات القوة القائمة حاليًّا؛ لأنّ الجغرافيا هي الأمر الثابت الوحيد في السياسة، في حين أنّ القوة متغيرة.
كانت نقطة الضعف الكردية، منذ بداية القرن، متمثّلةً باستغلالها من جهة قوىً دولية في صراعاتها في الشرق الأوسط، قبل التخلي عنها عند أول منعطف. ولذلك، ينبغي عدم الاعتماد على ذلك اللقاء الأميركي - الروسي في دعم حزب قومي كردي متطرّف لمحاربة داعش. وفي المقابل، تكون المواطنة الديمقراطية الضامنة لحقوق العرب والأكراد في سورية. ولكن، لا يجوز انتقاد الأكثرية العربية بسبب أيديولوجيةٍ قوميةٍ لأحزابٍ حاكمةٍ عاناها العرب وغيرهم، ولا يجوز كذلك الإصرار على صيغةٍ أيديولوجيةٍ متطرفةٍ من جهة القومية الكردية، والتخلّي عن الوطنية السورية. فهذا ممّا لا يصلح أساساً لتعايش عربي – كردي، في إطار مواطنةٍ سوريةٍ ديمقراطية شاملة. وهذه المواطنة هي الخيار الوحيد البديل من حربٍ مستدامةٍ، يخسر فيها الجميع.