تتقاطع تجربة الموسيقي وعازف العود السوري خالد الجرماني (1972) مع تجارب عدّة موسيقيين عرب وغربيين. عزف على آلته في مسارح عربية وأوروبية، فيما أنتج "معهد العالم العربي" في باريس ألبوماته الثلاث الأخيرة، "بانتظار الربيع"، و"أثر"، و"منفى"، الذي صدر حديثاً.
منذ بداية الألفية وحتى عام 2011، درّس الجرماني آلة العود لطلاب "المعهد العالي للموسيقى" في دمشق، الذي تخرج فيه عام 1999. لكن هذا الانهمام الأكاديمي لم يبعده عن مشروعه الخاص. هكذا، أسّس مع عازف الغيتار الفرنسي سيرج تيسو-غي، عام 2002، فرقة "مساحة تقاطع". وبعد سلسلة حفلات ناجحة، أصدرا، عام 2005، ألبومهما الأول الذي حمل اسم الفرقة، وأتبعاه، بعد عامين، بألبوم آخر سمياه "مساحة تقاطع ـ اليوم الثاني". وقد تولّت توزيع الأسطوانتين شركة "يونيفرسال" العالمية.
بعد أسطوانة "باب السلام" (2008)، التي شاركه فيها شقيقه مهنّد (إيقاع)، والموسيقي الفرنسي رافاييل فويّار (كلارينيت)؛ سيستكمل الجرماني تنويعاته الفنية. هكذا، سيزاوج موسيقاه بالفنون البصرية والموروث الشرقي من خلال "حفل المقام السمعي البصري بين الخط العربي والموسيقى الشرقية"، الذي قدمه مع التشكيلي السوري خالد الساعي، عام 2009.
اختار الجرماني طريق الاحتراف الموسيقي مفضلاً إياه على الهواية التي استقاها من والده، عازف العود والكمان. هكذا، درس الموسيقى مع عازف العود العراقي منير بشير؛ تجربة يصفها، في حديثه إلى "العربي الجديد"، بأنها "علامة فارقة، لأن منير بشير فتح لي نوافذ خارج ما عهدته وعرفته في الأكاديمية".
يرى الجرماني أن هذه الأكاديمية مهمّة بقدر ما يمكن أن تعطينا ونوظفها لمشروعنا الفني، "إذ أن الفنان دائم التعلم في الأكاديمية وخارجها، وهذا ما كنت أعمل عليه مع طلابي: أن نبحث معاً، لا أن أجيب على الأسئلة، بل أن أطرح الأسئلة، ونبحث عن الجواب سويةً".
التقى الجرماني بتجارب موسيقية لا تنتمي إلى الاشتغالات الشرقية. إلى مشروع "مساحة تقاطع" مع سيرج تيسو-غي، الذي أصدر معه، العام الماضي، أسطوانتهما الثالثة، "بانتظار الربيع – اليوم الثالث"؛ عمل مع عازفي الكونترباص أوليفييه موريييه وكلود ميرتيه. "الحوار مع الآخرين، عبر الإنصات إليهم، هو أهم ما يجب على الموسيقي إتقانه"، يقول، "ولهذا نجح حواري مع موسيقيين من ثقافات أخرى. ذلك أنني أحاور الفنان/الإنسان، لا الآلة، إذ أن العود، بمعنى ما، هو الإنسان الذي يعزف عليه ثقافته وذاكرته وعواطفه وأفكاره".
كانت المقطوعات الموسيقية الآلية، الخالية من الغناء، هي الحاضر الأقوى في الأعمال التي قدمها الجرماني خلال السنوات الماضية. لكن، ما لبثت القصائد أن تسللت إلى نتاجه، وهو ما يمكن ملاحظته في أسطوانتيه الأخيرتين، "بانتظار الربيع" و"منفى". يقول: "بدأ يظهر الغناء في أعمالي الأخيرة بدافع الحنين، بعد الاغتراب القسري الذي نعيشه. لكن مشروعي يبقى موسيقياً أولاً".
تتنوع مصادر الكلمات المنتقاة للتلحين في أعمال الجرماني بين الشعر الفصيح والعامي. يرتّب الفنان أولويات انتقائه للكلمات كالآتي: "يجذبني الكلام، أولاً، عندما أحس بأنه ينبع مني كفرد وكحالة عامة أو خاصة. آخذ في عين الاعتبار، ثانياً، طواعية الكلمة للموسيقى، أو حتى تحدّيها لها أحياناً. أهمية النصوص، في المقام الثالث، تلعب دوراً بحدّ ذاتها، خصوصاً الأعمال غير المتداولة، والتي عادة ما تجذبني لكي ألقي عليها قليلاً من الضوء".
حضرت النصوص الصوفية بين مجموعة الأغاني التي قدمها، لكن موقفه من تلحين هذا النوع من القصائد يبقى دقيقاً وحذراً، خصوصاً مع لجوء العديد من الموسيقيين العرب إلى هذا الموروث: "بقي النص الصوفي في الظل، خلال فترات من تاريخنا، بسبب الخوف من سلطة التعصب الديني أو بسبب الإهمال أو بسبب التجاهل من قبل المؤدلجين. انتبه إليه بعض الفنانين في البداية، لكن الخطير أنه بدأ يصبح موضة بسبب بريقه، خصوصاً في الغرب".
أسطوانة "أثر"، التي أصدرها العام الماضي، وتضم مقطوعات عزف منفرد على العود، اعتبرها الناقد الموسيقي الفرنسي فريدريك دوفال أحد الأمثلة الفنية التي أحس فيها بانتفاضات العالم العربي. الفنان الذي تبدي تجربته حساسية عالية تجاه الحدث اليومي، لم تنفصل موسيقاه عن الواقع السياسي في محيطه، ولا عن موقفه من الثورة السورية: "ما أكتبه في الموسيقى هو أنا؛ حياتي، وما أعيشه وأعاينه. مهما كان الفن مجرّداً، فإن له موقعاً وموقفاً في الحياة. بالنسبة إلي، لم يكن ممكناً أن أكون شاهد زور أو أن أتغاضى عمّا يحصل من حولي، حتى ولو كان مشروعي موسيقياً. كل ما نفعله فنياً يبقى على الهامش وقيمته لا تذكر إذا ما قورنت بتضحيات الناس الذين واجهوا الاستبداد على الأرض".
مرّ الجرماني عام 1991 بتجربة اعتقال استمرت 9 أشهر. في السجن، صنع مع رفاقه عوداً، أو ما يشبه العود، ليؤنسوا وحشة الزنزانة: "منذ ذلك اليوم وأنا واثق من أين يمر طريقي، وما هي حريتي: الموسيقى".
بعد ثلاث سنوات من المنفى في فرنسا، يبدو أثر المكان أكثر وضوحاً في تجربة للجرماني. هكذا، قدم مع أخيه مهند عازف الإيقاع وأوليفييه موريه عازف الكونترباص أسطوانة "منفى"، التي ميزها حضور الشعر العربي فيها: "كلما طال المنفى، كلما ابتعدت في الذاكرة، الذاكرة الجمعية، كي لا أفقد الانتماء أو المصدر".
أما عن مستقبل آلة العود ودورها بين التجارب الموسيقية الصاعدة اليوم، وكيف يمكن الحفاظ عليها وتطويرها، فيقول الجرماني: "للعود، اليوم، حضور قوي عالمياً. صرنا نرى عازفين أوروبيين يعزفون العود. أعتقد أن فتح باب البحث في الموروث بطريقة جدية، لا سياحية دعائية كما تفعل المؤسسات الثقافية الحكومية، بالتوازي مع تدريس أصول الآلة والاستماع إليها، يبقيان العود والموسيقى الشرقية على قيد الحياة. لكن، لا بد من القول إن على الشرق، هو ذاته، أن يبقى حياً، قبل أي شيء!".