تمرّ اليوم الذكرى الثامنة لرحيل المثقّف الليبي خليفة محمد التليسي (1930 - 2010)، ونستعمل هذا التوصيف باعتبار أنه لا يمكننا حصره في صفة معرفية واحدة، فقد وقف الرجل من حياته، جُزْءها الأكبر، لخدمة الضاد وكلِمها، من خلال جهود معجمية متنوّعة، وكذلك بإغنائها بما حصّل من ثقافات أجنبية، خصوصاً منها الإيطالية، فأتى بروافد آدابها، شعرها ونثرها، فضلاً عن أعمال فكرية، وأبحاث تاريخية وسياسية أنجزها طيلة عقود.
لقد وُفِّق التليسي إلى حدٍّ ما، في الجمع بين مَجاليْ البحث الفكري واللغوي من جهة، ومناصب السياسة ومسؤولياتها من جهة ثانية، على تباعدِ ما بينهما. فبعد الدراسة في إيطاليا اشتغل بالعمل النيابي في ليبيا، من سنة 1952 إلى 1962 (ما قبل عهد القذافي)، وانتُخب أمينًا عامًا للمجلس النيابي، ثم عيّن وزيرًا للإعلام والثقافة من 1964 حتى 1967، وأنهى مسيرته (السياسية) سفيرًا لدى المغرب.
كما تولّى التليسي مهام أخرى من بينها رئاسة اللجنة العليا للإذاعة، وأشرف على "الدار العربية للكتاب" (التي أصدرت لاحقاً معظم أعماله)، وعلى أمانة اتحاد الأُدباء والكتاب الليبيين، واتحاد الناشرين العرب. ولم يمنعه كل ذلك من تحبير ما يقرب خمسة وأربعين مؤلَّفًا حول تاريخ ليبيا، وصناعة المعاجم بأنواعها (وحيدة اللغة، مزدوجتها، والمختصّة)، فضلًا عن الترجمة، خصوصاً من الإيطالية، وإبداع النصوص أصالةً وابتداءً.
ويظلّ أهم إنجازات المثقف الليبي كتاب: "النفيس من كنوز القواميس: صفوة المتن اللغوي من تاج العروس ومراجعه الكبرى" (2001)، الذي خلّص فيه مفردات العربية مما داخَلَها من غريبٍ حوشي ومتروك عويص. ولم يقتصر عمله هذا، كما يوحي عنوانه، على إعادة إخراج الأربعين جزءًا من "تاج العروس"، الذي ألفه الفيروز آبادي (1329 - 1414)، باختصارها في أربعة أجزاء فقط (2553 صفحة)، بل أعاد بَنْيَنة مادته الضخمة منتهجًا الترتيب الألفبائي (على خلاف "التاج" في اتباع الجذور الثلاثيّة)، الذي يجعل من الحرف الأول بابًا مع تتبع باقي الأحرف حتى نهاية الكلمة.
كما جهد في تخليص المادة اللغوية من المعلومات الموسوعية (تاريخ، قبائل، دين، أماكن...) التي كان المعجميون القدماء يضمنونها آثارهم، ولم تعد اليوم تفيد سوى أهل الاختصاص.
وبفضل هذا العمل التهذيبي، جعل قاموس الضاد المستعمل في متناول أيدي غير المختصّين، ضمن مسار تثقيفي ملتزم، يقرّب المعاجم وينشر معارفها بين العموم، بعد أن خففها مما "أهملته الجماعة من ميّت الألفاظ ومهجورها"، على حد عبارته، كما اهتم فيه بذكر الألفاظ غير العربيّة، ووصفها، وبيان أصولها الأجنبية.
ومن الجدير أن تستعاد اليوم مقدّمة "النفيس" تحليلاً وتوسُّعًا؛ فقد وضع فيها ما يشبه التأريخَ لمناهج القواميس في ترتيب المادة اللغوية ونظمها، مغلّبًا النزعة الذاتية، بما أنه انطلق من تجربته الخاصة في التعامل مع الكَلم، وهو ما يفتح المجال أمام ضربٍ من سيكولوجية صناعة المعاجم ومحدّداتها ومؤثّراتها الذاتية والموضوعية، وهو فرعٌ لم تتفتّق بعدُ أكمامه، ضمن دوحة المعجميات العربية.
وبالإضافة إلى "النفيس" الذي يعدّ "مشروع عمره"، تصدّى التليسي لأعمال معجمية أخرى، من أبرزها معجمٌ، طريف في بابه، خصّصه لجمع مفردات "معارك الجهاد في ليبيا من سنة 1911 م حتى سنة 1931"، في سابقة تشبه التأريخ للظاهرة الاستعمارية في ليبيا عبر المصطلحات المفاتيح التي ميّزتها.
فقد رصد فيه جلّ المعارك التي دارت خلال عقديْن من الزمن بالرجوع إلى كتابات الضبّاط الإيطاليين الذين شاركوا في احتلال ليبيا. وقد حرص، بعد ذِكر أسماء المعارك، على التوثيق المكاني والزّماني لأحداثها بشكل موجَز.
والملاحظ أنّ تسميات المعارك المذكورة غلبت عليها العامية اللّيبيّة، وخالف بعضها الوضع العربي. كما لوحظ عليه إهمال ترجمة أسماء المراجع التي استقى منها مادته إلى العربية، فضلاً عن عدم اتباع طريقة صارمة متسقة في ضبط المداخل.
وخصّص معجمًا ثالثًا، ذا طبيعة إثنوغرافية واضحة، للبحث في مفردات "سكّان ليبيا"، هذا البلد الذي يعرف ثراءً إثنيًا كبيرًا، يعجز غير المختص عن تمثّله بسهولة، لكثرة ما فيه من التلاحم القَبَلي. ولذلك، وفّر هذا العمل أداة ناجعة لفهم تنوع هذه المكونات القبلية، وتجميع تراثها ورموزها ضمن بناء متّسقٍ.
وتجدر الإشارة أنَّ هذه الموسوعة هي تلخيص وترجمة لكتاب "سكّان ليبيا" لـ هنريكو أغسطيني، (عسكري إيطالي شارك في احتلال ليبيا 1878 - 1973)، الذي استقى منه مادته، ولكنه تصرّف فيها بشكل مختلفٍ تمامًا، ومن ألوان تصرّفه اعتماد العائلة كوحدة أساسيّة، انطلق منها لبيان أواصر القربى والتضامن العشائري شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وظهر ذلك في بيان المداخل التي تشير إلى العائلات ووضع الوصف بين قوسين، متوسعًا في الحديث عن بعض القبائل المشهورة، وسرد الوقائع التي تتعلّق بها، مصحّحًا بذلك الكثير من التصوّرات، مثل هجرة بني هلال وبني سليم، وتهمة التخريب التي صاحبتها.
وتضمّن المعجم، في نهايته، رسومًا لشجرة الأنساب لكثير من القبائل الليبيّة، لإيضاح فروع كل قبيلة وأماكن حضورها. ولذلك تنوعت المداخل وفق مكوّنات المجتمع اللّيبي (عرب، أمازيغ، تبو، طوارق)، وهو ما يؤسّس لعمل موسوعي تاريخي خاص بليبيا، منفتحٍ على أنثروبولوجيا ثقافية تنصب على دراسة القبائل والعشائر في تعاملها باللغة واستخدامها للكلم في تسمية العالم وأنسنته.
وأخيرًا تضمّن منجز اللغوي الليبي مساهمة في المعاجم مزدوجة اللغة، فقد صاغ قاموسًا إيطاليًا - عربيًا، وجَّهه إلى الطلاب بغاية البحث الجامعي، والترجمة والاستعمالات السريعة في مجالات الحياة اليومية، وهو اليوم أشهر المعاجم بين اللغتيْن استعمالاً.
بعد هذه المسيرة الحافلة، أُخذ على التليسي، أحيانًا، غياب الصرامة العلمية في ترتيب المواد وتوثيق المعلومات، كما انتقدت بعض اختياراته المعجمية، حذفًا وإثباتًا، فإسقاطه ما يسميه "الغريب" أو "المهجور" غير متّسق تمامًا، لأنَّ الغرابة تختلف باختلاف العصور والأذواق والتداول، وكم من كلمة ظُنّت غريبة، فإذا بها اليوم في أعمدة الصحف الأولى.
كما ليم عليه التبسيط الذي لا يفيد المتخصّصين، ولا يفي بحاجات المبتدئين، وهي انتقادات سليمة الأساس، ولكنها تغفل طبيعة المرحلة الثقافية التي مرّت بها ليبيا في تلك الحقبة، إذ كانت تفتقر إلى البنى الجامعية الضرورية لممارسة فكر صارم دقيقٍ، كما أن حجم التحدّيات العلمية التي تصدّى لها، وانفتاحها على فنون عدة (أنثروبولوجيا، تأريخ، ترجمة، شعر، رواية، مَعجمة...) تؤكّد أن الرجل نهض، وبمفرده، بما كان يجب أن تنهض به المؤسسات، كما أنَّ ما أتمّه، يظل، على عِلّاته، بداية ينبغي تعقبها وإكمالها بأعمالٍ أخرى بعد أن فتح الطريق لعقلنة المعارف اللغوية والتاريخية التي تخص ليبيا، هذا البلد الذي يعاني ويلات التمزّق حاليًا، بعد أن تحمّل نزوات "القائد"، لعقود أربعة.
_______________________
لوركا و"البيت الواحد"
كان من بين أعمال الترجمة، التي قدّمها التليسي للقارئ العربي، نقلُه الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا إلى العربية؛ "لوركا: الديوان الكامل" (1992) عن "الدار العربية للكتاب" (أعاد نشره "المركز القومي للترجمة" في مصر عام 2011)، وكتاباً آخر بعنوان: "لوركا: دراسات نقدية حول شعره ومسرحه" (1992). وفي الشعر أيضاً تُذكر مختاراته "من روائع الشعر العربي" و"قصيدة البيت الواحد".