"أصرخ بأنجلينا جولي لتسرع بزيارتك"!
كانت رانيا صديقتي اللبنانية ذات العينين الواسعتين والوجه المبتسم الحَبور تحكي لي أنه أثناء الحرب الأهلية في لبنان أن القرية التي فوقهم (أي إلى الشمال) تضرب القرية التي تحتهم (إلى الجنوب) فيردون عليهم "اللي تحت" بكمائن على الطريق العام المار بالقرى الثلاث.. فأسألها: وقريتكم؟ فتجيب: لا يحدث شيء عندنا، ما إلنا علاقة.. كانت الدهشة تربط الشهقة بشفتي وتترك ضباباً على عيني يحتاج لدقائق كي أستطيع إخفاءه، وقد أصبحت أكثر جهلاً بالحرب اللبنانية بعد هذه النشرة الإخبارية الجغرافية الغريبة.
على العكس مما يعتقد في المناطق الواقعة خارج الحرب، فالحرب نقاط وليست مساحات شاسعة، ولهذا هناك المناطق الساخنة، والبؤر الهادئة كفوهات براكين على وشك الانفجار، وعلى خرائط الديجيتال في نشرات الأخبار تلمع هذه المناطق تحت سيطرة هذا أو ذاك.. ثم تبرد سخونتها إن تزعزعت السيطرة، فإما أن تعاود الغليان مرة أخرى أو ترحل من الخارطة. لكن في بقية المساحات حول تلك النقط البارزة؛ هناك الواقع الذي كانت رانيا تتحدث عنه.
تستطيع الحياة أن تجد لها مسرباً دائماً فلا تتوقف، بل تجعلك تتأقلم حتى لا تعود تشعر سوى بها لكن بطريقة غائمة قلقة، فتعيش في سحابة تتأرجح بين الحلم والكابوس. وهنا حاولت أن أتوازن وأتطلع حولي لأستطيع استيعاب أرضي الجديدة. أخبرت صديقتي العراقية التي لجأت إلى سورية هرباً من حرب العراق باكتشافاتي، فضحكت وشاركتني هذه العلامات التي سبق وأخبرني عنها الكثير من اللبنانيين في هروباتهم إلى سورية.
أولى هذه العلامات أن الحواس الخمس تندمج بمحيطها وتكون أول المتأقلمين مع طعم الخبز الجديد بعد أن أضحى الطحين أسمر ويحتوي أشياء ورواسب لم تكن توجد قبلاً، فتترك طعماً بدا لوهلة غريباً ثم ضاع في زحمة الحواس الضائعة، والشم الذي يتماهى مع مخلفات الشوارع، وروائح البشر الجديدة بعد أن أصبح الصابون لا يزيل الأوساخ والمعطرات التي أضحت تميل للكحولية.
نتذكر أشعار "هومر" عندما يصف البحر بالنبيذ، ونعتقد أن العين التي تطورت على رؤية الألوان منذ ذلك الحين قد تراجعت، لكن ربما كانت الحقيقة أن لا فرق الآن إن كان البحر أزرق أم أحمر، فأنت أكثر انشغالا بنشرة الأخبار ومعرفة البؤر الساخنة والمناطق التي وصلت درجة الغليان.
كذلك ملاحظة أن الأرز الذي كان مقداراً منه يحتاج لمقدارين من الماء حتى ينضج، وتتباهى بفن طبخه النساء، أضحى الآن لا يتبع هذه المقادير بل بحسب الجهة التي يأتي منها هذا الأرز أو المنظمة التي تقوم بتوزيعه (لا تزال معونات الأمم المتحدة هي الأفضل).
الثانية، أنه بينما تضعف الحواس الخمس فإن الحاسة السادسة تتعافى فجأة! الحياة التي هي بالنسبة لعقلنا الواعي تجري كسلسلة منطقية من الأحداث المترابطة، فإذا طرأ تغيّر مفاجئ (كقذيفة أو صوت طائرة حربية، أو بندقية موجهة إلى الرأس) يحاول العقل ربطه بالسلسلة، وإن فشل يحوّله للوعي الباطن، حيث الحاسة السادسة. ككل الملكات تعمل تلك الحاسة بالتنبيه وتتطور بالاستعمال، ففي دراسة تبنتها جامعة "كولومبيا" والمعهد الأميركي الوطني للصحة العقلية في بروكلن - نيويورك، والاتحاد الوطني الأميركي لدراسة الاكتئاب والفصام، أن التوتر والقلق لفترات قصيرة يرتبط طرداً (أي يوافق) الذكاء الواعي والذكاء اللاواعي، لكنه إن استمر سيثبط الوعي (الذكاء العقلي) بينما يزداد ذكاء اللاوعي (أي الحاسة السادسة). وينبئنا هذا بأنه في الحروب الطويلة من الطبيعي أن يتطور البشر لشمبانزي بعقل محدود القدرة بغرائز تحركه للأمام، وحاسة سادسة حادة تساعده على النجاة من المطبّات.
في دراسة أميركية أخرى -تبنتها جامعة هارفرد هذه المرة- قالت إن الحرب تؤثر سلباً على الصحة البدنية والذهنية للمجتمع ككل، وتراجعا في الأخلاق الفردية.. حدث هذا في كل حرب، من الحروب الرومانية حتى العالميتين، مروراً بالحرب الفرانكو- ألمانية 1870، والحرب اليابانية-الروسية 1904، والحروب الأفريقية، وأثناء انقلابات أميركا اللاتينية، والحروب الأهلية الصغيرة هنا وهناك.
الثالثة، هي أن الصحة البدنية والأمراض في كل موسم لها اسم جديد (أسماء الحيوانات التي تحملها وتقتل البشر كإنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر) وتنتشر عوارض غريبة لأمراض لا أسماء لها يرافقها تقنين في الكهرباء (أي التدفئة) والماء (للتعقيم) والمواد الفعالة في الدواء (حبة واحدة لن تعود صالحة لإقصاء وجع الرأس، والأدوية النفسية أصبح تأثيرها أضعف وإدمانها أقوى) إضافة لدمار البنى الطبية التحتية وهروب الأطباء وتلوث المياه في التفجيرات التي يتخلى عن تبنيها الجميع، وكذلك الازدحام السكاني الكبير في الأماكن القليلة
التي لا تزال صالحة للحياة البشرية فتسهل انتشار الأمراض المعدية.
أخشى أننا في سورية لا ندري من مِن الأطراف يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد ناس الشارع التابع للطرف الآخر، ومن مِن الدول التي تحمينا تجرب في أجوائنا أسلحتها البيولوجية الجديدة.
الرابعة، أن الصحة النفسية المتدهورة والانهيارات العلنية والجنون -بشكل من الأشكال- هي فرصة جميلة لتخبئ جنونك أو لتفعّله فتصرخ في الشارع كما حلمت منذ وقت طويل، من دون أن يهرب منك الآخرون، بل ربما حسدوا قدرتك على التعبير.. حبك لعدم استخدام الحمّام والتصعلك أصبح مشروعاً الآن بل ومرحباً به.. الانتماء لروح الجماعة في البؤس والوحدة والخوف والخذلان.
الأخيرة، هي أن للتدهور الأخلاقي مشاهدات قبيحة وانتهازيين على الشاشات وفساد في الأرض إذ تبرر غريزة البقاء كل الموبقات.. تسول الأطفال والدعارة على المفارق، والعسكرة في الشوارع... المواد الاستهلاكية الغالية شبه المفقودة مثل الحس الإنساني.. لكن الرجل والمرأة بضاعة كاسدة ويسهل الحصول عليها وتوظيفها في كل الأوجه والأشكال. ولن أتحدث أكثر في هذا لأن قلبي لم يعد يرغب بالبقاء!
إلا أن الجميل في الموضوع هو أن منظمات العالم المتحد لا تزال تفكر بنا وتدفع مبالغ لا بأس بها للمشاريع الصغيرة، كصنع سلال لمواسم الفاكهة في الحقول التي على خط النار، أو إنتاج ألبان وأجبان من أبقار ميتة ومزارع منهوبة.. ثم إن أنجلينا جولي لا تزال هنا، وجورج كلوني قد تزوج من محامية تخاف علينا، وستنقذنا هوليوود في الوقت المناسب.
نحن بخير!
على العكس مما يعتقد في المناطق الواقعة خارج الحرب، فالحرب نقاط وليست مساحات شاسعة، ولهذا هناك المناطق الساخنة، والبؤر الهادئة كفوهات براكين على وشك الانفجار، وعلى خرائط الديجيتال في نشرات الأخبار تلمع هذه المناطق تحت سيطرة هذا أو ذاك.. ثم تبرد سخونتها إن تزعزعت السيطرة، فإما أن تعاود الغليان مرة أخرى أو ترحل من الخارطة. لكن في بقية المساحات حول تلك النقط البارزة؛ هناك الواقع الذي كانت رانيا تتحدث عنه.
تستطيع الحياة أن تجد لها مسرباً دائماً فلا تتوقف، بل تجعلك تتأقلم حتى لا تعود تشعر سوى بها لكن بطريقة غائمة قلقة، فتعيش في سحابة تتأرجح بين الحلم والكابوس. وهنا حاولت أن أتوازن وأتطلع حولي لأستطيع استيعاب أرضي الجديدة. أخبرت صديقتي العراقية التي لجأت إلى سورية هرباً من حرب العراق باكتشافاتي، فضحكت وشاركتني هذه العلامات التي سبق وأخبرني عنها الكثير من اللبنانيين في هروباتهم إلى سورية.
أولى هذه العلامات أن الحواس الخمس تندمج بمحيطها وتكون أول المتأقلمين مع طعم الخبز الجديد بعد أن أضحى الطحين أسمر ويحتوي أشياء ورواسب لم تكن توجد قبلاً، فتترك طعماً بدا لوهلة غريباً ثم ضاع في زحمة الحواس الضائعة، والشم الذي يتماهى مع مخلفات الشوارع، وروائح البشر الجديدة بعد أن أصبح الصابون لا يزيل الأوساخ والمعطرات التي أضحت تميل للكحولية.
نتذكر أشعار "هومر" عندما يصف البحر بالنبيذ، ونعتقد أن العين التي تطورت على رؤية الألوان منذ ذلك الحين قد تراجعت، لكن ربما كانت الحقيقة أن لا فرق الآن إن كان البحر أزرق أم أحمر، فأنت أكثر انشغالا بنشرة الأخبار ومعرفة البؤر الساخنة والمناطق التي وصلت درجة الغليان.
كذلك ملاحظة أن الأرز الذي كان مقداراً منه يحتاج لمقدارين من الماء حتى ينضج، وتتباهى بفن طبخه النساء، أضحى الآن لا يتبع هذه المقادير بل بحسب الجهة التي يأتي منها هذا الأرز أو المنظمة التي تقوم بتوزيعه (لا تزال معونات الأمم المتحدة هي الأفضل).
الثانية، أنه بينما تضعف الحواس الخمس فإن الحاسة السادسة تتعافى فجأة! الحياة التي هي بالنسبة لعقلنا الواعي تجري كسلسلة منطقية من الأحداث المترابطة، فإذا طرأ تغيّر مفاجئ (كقذيفة أو صوت طائرة حربية، أو بندقية موجهة إلى الرأس) يحاول العقل ربطه بالسلسلة، وإن فشل يحوّله للوعي الباطن، حيث الحاسة السادسة. ككل الملكات تعمل تلك الحاسة بالتنبيه وتتطور بالاستعمال، ففي دراسة تبنتها جامعة "كولومبيا" والمعهد الأميركي الوطني للصحة العقلية في بروكلن - نيويورك، والاتحاد الوطني الأميركي لدراسة الاكتئاب والفصام، أن التوتر والقلق لفترات قصيرة يرتبط طرداً (أي يوافق) الذكاء الواعي والذكاء اللاواعي، لكنه إن استمر سيثبط الوعي (الذكاء العقلي) بينما يزداد ذكاء اللاوعي (أي الحاسة السادسة). وينبئنا هذا بأنه في الحروب الطويلة من الطبيعي أن يتطور البشر لشمبانزي بعقل محدود القدرة بغرائز تحركه للأمام، وحاسة سادسة حادة تساعده على النجاة من المطبّات.
في دراسة أميركية أخرى -تبنتها جامعة هارفرد هذه المرة- قالت إن الحرب تؤثر سلباً على الصحة البدنية والذهنية للمجتمع ككل، وتراجعا في الأخلاق الفردية.. حدث هذا في كل حرب، من الحروب الرومانية حتى العالميتين، مروراً بالحرب الفرانكو- ألمانية 1870، والحرب اليابانية-الروسية 1904، والحروب الأفريقية، وأثناء انقلابات أميركا اللاتينية، والحروب الأهلية الصغيرة هنا وهناك.
الثالثة، هي أن الصحة البدنية والأمراض في كل موسم لها اسم جديد (أسماء الحيوانات التي تحملها وتقتل البشر كإنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر) وتنتشر عوارض غريبة لأمراض لا أسماء لها يرافقها تقنين في الكهرباء (أي التدفئة) والماء (للتعقيم) والمواد الفعالة في الدواء (حبة واحدة لن تعود صالحة لإقصاء وجع الرأس، والأدوية النفسية أصبح تأثيرها أضعف وإدمانها أقوى) إضافة لدمار البنى الطبية التحتية وهروب الأطباء وتلوث المياه في التفجيرات التي يتخلى عن تبنيها الجميع، وكذلك الازدحام السكاني الكبير في الأماكن القليلة
التي لا تزال صالحة للحياة البشرية فتسهل انتشار الأمراض المعدية.
أخشى أننا في سورية لا ندري من مِن الأطراف يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد ناس الشارع التابع للطرف الآخر، ومن مِن الدول التي تحمينا تجرب في أجوائنا أسلحتها البيولوجية الجديدة.
الرابعة، أن الصحة النفسية المتدهورة والانهيارات العلنية والجنون -بشكل من الأشكال- هي فرصة جميلة لتخبئ جنونك أو لتفعّله فتصرخ في الشارع كما حلمت منذ وقت طويل، من دون أن يهرب منك الآخرون، بل ربما حسدوا قدرتك على التعبير.. حبك لعدم استخدام الحمّام والتصعلك أصبح مشروعاً الآن بل ومرحباً به.. الانتماء لروح الجماعة في البؤس والوحدة والخوف والخذلان.
الأخيرة، هي أن للتدهور الأخلاقي مشاهدات قبيحة وانتهازيين على الشاشات وفساد في الأرض إذ تبرر غريزة البقاء كل الموبقات.. تسول الأطفال والدعارة على المفارق، والعسكرة في الشوارع... المواد الاستهلاكية الغالية شبه المفقودة مثل الحس الإنساني.. لكن الرجل والمرأة بضاعة كاسدة ويسهل الحصول عليها وتوظيفها في كل الأوجه والأشكال. ولن أتحدث أكثر في هذا لأن قلبي لم يعد يرغب بالبقاء!
إلا أن الجميل في الموضوع هو أن منظمات العالم المتحد لا تزال تفكر بنا وتدفع مبالغ لا بأس بها للمشاريع الصغيرة، كصنع سلال لمواسم الفاكهة في الحقول التي على خط النار، أو إنتاج ألبان وأجبان من أبقار ميتة ومزارع منهوبة.. ثم إن أنجلينا جولي لا تزال هنا، وجورج كلوني قد تزوج من محامية تخاف علينا، وستنقذنا هوليوود في الوقت المناسب.
نحن بخير!