03 يوليو 2019
خيار باب الرحمة
ليس الشعب الفلسطيني هو الذي يطالب الرئيس محمود عباس بالرحيل، ولا هو الذي يهتف له "اخترناك". هذه لعبة فصائلية خطرة، يلجأ إليها التياران السياسيان المتصارعان على سلطة حكم ذاتي محدود، ولا سلطة فعلية لها، بعدما أهدرا الطاقات الوطنية، طوال ثلاث عشرة سنة سلفت، في معارك بينيةٍ عبثيةٍ، على طريق وصولهما الفاجع أخيراً إلى حيث يقرّ كل منهما، أو يكاد، بعجزه عن تفعيل برامجه، وشعاراته المعلنة، مقاومةً كانت أو سلاماً.
صحيحٌ أن حال الفلسطينيين مع حكم عباس ليست أقل مدعاةً للاحتجاج من حال السودانيين والجزائريين الذين تدفقوا إلى الشوارع متظاهرين ضد منح رئيسيْهم فرصة الترشّح لولاية جديدة، وصحيحٌ أن تجربة الرجل في الرئاسة أثارت، طوال خمسة عشر عاماً، وما زالت تثير، انتقاداتٍ واتهامات، لا قبل لأنصاره بدحضها، غير أن الثورة الشعبية عليه لم تقم بعدُ بالفعل، لأسبابٍ قد يطول نقاشها، وما محاولة اصطناع حملات "ارحل" على الشاكلة التي شهدها قطاع غزة خلال الأيام القليلة الماضية إلا سلوك كيدي، ينمُّ عن فهم سطحي لحركة الشعوب، ومثله في الرثاثة المثيرة للشفقة، جاء الرد في الضفة الغربية، بالبيْعات الكاريكاتورية التي بدت كأنها تستنفر حمياتٍ بدائية، ليكتمل، على الجانبين معاً، منطق الانتصار للقبيلة الحزبية، بشكلٍ يصعب إزاءه سوى أن تتذكّر قول الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة، قبل ألف وخمسمائة سنة: "وهل أنا إلا من غزية، إن غوتْ غويتُ، وإن ترشدْ غزية أرشدُ؟".
في جوانب أخرى من هذه الصورة، يمكن لمن يشاء أن يرى كيف تتمسّك حركة حماس بسياسة براغماتية شديدة الود، لدى تعاملها مع من تسميهم "الأشقاء العرب" الذين يحاصرونها، ويضيقون الخناق عليها، سياسياً، وجغرافياً، بمن فيهم المتواطئون مع إسرائيل علناً ضد مصالح الشعب الفلسطيني، لكنها تتخلّى عن مرونتها تلك، دفعةً واحدة، وتستبدلها بتصلّبٍ غير قابل للمساومة، حين تدير وجهها نحو من تختلف معهم من أبناء جلدتها في رام الله، حتى أنها تختزلهم، أحياناً كثيرة، بوصفهم جماعة "التنسيق الأمني" مع الاحتلال، إن لم ترمهم جميعاً بتهمة العمالة للعدو.
ويمكن لمن يشاء أن يرى أيضاً، على الجبهة المقابلة من صراع "الإخوة الأعداء"، كيف يتعزّز، دونما ضابط أو مسبار، سلوكٌ لا يقل بؤساً في تأرجح أصحابه بين مرونة وتصلب في غير موضعيهما المفترضين، حتى صار الفلسطينيون المتضرّرون من الانقسام يشتهون لو أنهم يسمعون الرئيس عباس، أو أياً من مستشاريه ومساعديه، متحدثاً مرة عن الأشقاء في غزة، بلغةٍ تخلو من وصفهم انقلابيين، واتهامهم بالظلامية، وتهديدهم بالعقوبات، كي يستخدم، بدلاً منها، مفرداتٍ سلميةً تصالحيةً تشبه تلك التي ما انفك يكرّرها كلما تحدث عن شعب إسرائيل أو مستقبل شبابها.
والأسوأ في سلوك أولئك وهؤلاء أنهم لا يلتفتون، وسط احتدام معاركهم العبثية، إلى نشوء معطياتٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ باتت تقاربهما سياسياً، على نحو غير مسبوق، وأهمها ربما استعداد حركة حماس للقبول بحل إقامة الدولة الفلسطينية، على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967، بعد انحسار الأفق أمام خيار المقاومة المسلحة، وتيه قادتها في دهاليز المخابرات المصرية بحثاً عن هدنةٍ طويلة الأمد مع إسرائيل، بالتزامن مع تيقن حركة فتح، في المقابل، من وصول "سلام أوسلو" إلى طريقٍ مسدود، وتبنّيها موقفاً صريحاً يرفض التسوية الأميركية المسمّاة صفقة القرن.
على ماذا إذن يتصارع الطرفان؟ سؤالٌ ما عاد جوابه يحتاج أي بحث، سوى في مدى أهليتهما لقيادة الشعب الفلسطيني، كما في مدى حاجة قضيته الوطنية إلى استيلاد خيارٍ ثالث، يرتقي إلى مستوى البطولات الكفاحية التي ما انفكّ أبناء القدس وغزة والخليل ونابلس يجترحونها، وكان جديدها تدفق ألوف المقدسيين ليفتحوا باب الرحمة المؤدي إلى المصلّى الأموي في المسجد الأقصى، رغم أنف الاحتلال، وبعيداً عن انقسام المنقسمين بين باب "ارحل" وباب "اخترناك".
صحيحٌ أن حال الفلسطينيين مع حكم عباس ليست أقل مدعاةً للاحتجاج من حال السودانيين والجزائريين الذين تدفقوا إلى الشوارع متظاهرين ضد منح رئيسيْهم فرصة الترشّح لولاية جديدة، وصحيحٌ أن تجربة الرجل في الرئاسة أثارت، طوال خمسة عشر عاماً، وما زالت تثير، انتقاداتٍ واتهامات، لا قبل لأنصاره بدحضها، غير أن الثورة الشعبية عليه لم تقم بعدُ بالفعل، لأسبابٍ قد يطول نقاشها، وما محاولة اصطناع حملات "ارحل" على الشاكلة التي شهدها قطاع غزة خلال الأيام القليلة الماضية إلا سلوك كيدي، ينمُّ عن فهم سطحي لحركة الشعوب، ومثله في الرثاثة المثيرة للشفقة، جاء الرد في الضفة الغربية، بالبيْعات الكاريكاتورية التي بدت كأنها تستنفر حمياتٍ بدائية، ليكتمل، على الجانبين معاً، منطق الانتصار للقبيلة الحزبية، بشكلٍ يصعب إزاءه سوى أن تتذكّر قول الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة، قبل ألف وخمسمائة سنة: "وهل أنا إلا من غزية، إن غوتْ غويتُ، وإن ترشدْ غزية أرشدُ؟".
في جوانب أخرى من هذه الصورة، يمكن لمن يشاء أن يرى كيف تتمسّك حركة حماس بسياسة براغماتية شديدة الود، لدى تعاملها مع من تسميهم "الأشقاء العرب" الذين يحاصرونها، ويضيقون الخناق عليها، سياسياً، وجغرافياً، بمن فيهم المتواطئون مع إسرائيل علناً ضد مصالح الشعب الفلسطيني، لكنها تتخلّى عن مرونتها تلك، دفعةً واحدة، وتستبدلها بتصلّبٍ غير قابل للمساومة، حين تدير وجهها نحو من تختلف معهم من أبناء جلدتها في رام الله، حتى أنها تختزلهم، أحياناً كثيرة، بوصفهم جماعة "التنسيق الأمني" مع الاحتلال، إن لم ترمهم جميعاً بتهمة العمالة للعدو.
ويمكن لمن يشاء أن يرى أيضاً، على الجبهة المقابلة من صراع "الإخوة الأعداء"، كيف يتعزّز، دونما ضابط أو مسبار، سلوكٌ لا يقل بؤساً في تأرجح أصحابه بين مرونة وتصلب في غير موضعيهما المفترضين، حتى صار الفلسطينيون المتضرّرون من الانقسام يشتهون لو أنهم يسمعون الرئيس عباس، أو أياً من مستشاريه ومساعديه، متحدثاً مرة عن الأشقاء في غزة، بلغةٍ تخلو من وصفهم انقلابيين، واتهامهم بالظلامية، وتهديدهم بالعقوبات، كي يستخدم، بدلاً منها، مفرداتٍ سلميةً تصالحيةً تشبه تلك التي ما انفك يكرّرها كلما تحدث عن شعب إسرائيل أو مستقبل شبابها.
والأسوأ في سلوك أولئك وهؤلاء أنهم لا يلتفتون، وسط احتدام معاركهم العبثية، إلى نشوء معطياتٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ باتت تقاربهما سياسياً، على نحو غير مسبوق، وأهمها ربما استعداد حركة حماس للقبول بحل إقامة الدولة الفلسطينية، على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967، بعد انحسار الأفق أمام خيار المقاومة المسلحة، وتيه قادتها في دهاليز المخابرات المصرية بحثاً عن هدنةٍ طويلة الأمد مع إسرائيل، بالتزامن مع تيقن حركة فتح، في المقابل، من وصول "سلام أوسلو" إلى طريقٍ مسدود، وتبنّيها موقفاً صريحاً يرفض التسوية الأميركية المسمّاة صفقة القرن.
على ماذا إذن يتصارع الطرفان؟ سؤالٌ ما عاد جوابه يحتاج أي بحث، سوى في مدى أهليتهما لقيادة الشعب الفلسطيني، كما في مدى حاجة قضيته الوطنية إلى استيلاد خيارٍ ثالث، يرتقي إلى مستوى البطولات الكفاحية التي ما انفكّ أبناء القدس وغزة والخليل ونابلس يجترحونها، وكان جديدها تدفق ألوف المقدسيين ليفتحوا باب الرحمة المؤدي إلى المصلّى الأموي في المسجد الأقصى، رغم أنف الاحتلال، وبعيداً عن انقسام المنقسمين بين باب "ارحل" وباب "اخترناك".