داعش .. العنف هوية معاصرة
الأخبار عن تجارة تنظيم داعش بالأعضاء البشرية، في الموصل، وحصوله على تلك الأعضاء من الضحايا المحتملين، ممن يقعون في الأسر، لا تحيل إلى غريزة العنف المتأصلة في هوية هذا التنظيم المتوحش فحسب؛ بل تؤشر، أيضاً، إلى سمة مادية معاصرة لصور العنف، وتوظيفه ضمن فعل يذكّر بأعمال العصابات الحديثة، ما يؤكد أن هذا التنظيم، على الرغم من دعواه العريضة حيال طرح رؤية ماضوية مؤدلجة وعنيفة لمفاهيم إسلامية، كالخلافة والشريعة، إلا أنه، مع ذلك، يمثل تعبيراً عميقاً في الاستجابة للعنف المادي الذي تفرزه علاقات القوة.
ففيما تضخ وسائل الإعلام وقنوات التلفزة، لا سيما العربية منها، تلك الصور الهوليودية لتسجيلات داعش وتصاويره المحكمة الأداء والإتقان، في لحظات مشهدية بشعة وعالية الدقة، وتضخ، في الوقت نفسه، تسييلاً لمشاعر العداء الطبيعي والمتوقع حيال هذه الأفعال الإجرامية للتنظيم، ربما لا تنتبه تلك الوسائل إلى أن هوية العنف التي تنعكس في أفعال هذا التنظيم جزء من ردود فعل لوقائع العنف التي تحكم هذا العالم. ذلك أن هذا العنف الذي بدا، اليوم، منظماً وحديثاً، في أفعال هذا التنظيم وجرائمه، هو بالضرورة عنف سيستمر طويلاً؛ ليس لأن ردود فعله قابلة للتناسل فحسب، وإنما، أيضاً، لأنه الوسيلة الحصرية والوحيدة لهذا التنظيم، في أداء نشاطاته المادية.
فالعنف الذي يجري تسييله، اليوم، في هذه الحرب من طرف مقاتلي داعش، وإن كان قابلاً للتأويل، عبر استدعاء حالاته السابقة الأولية، والأولى في التاريخ، من جماعات الخوارج كأسلاف محتملين، إلا أنه، في جوهره وأساليب استخدامه، وحتى أسبابه المعاصرة، سيضعنا حيال احتمالات أخرى لبيئة العنف المعاصرة.
لهذا، ربما كان من المهم جداً قراءة لحظة ظهور داعش ضمن سيرورة من تمثلات العنف التي انتظمت تاريخ هذه المنطقة، مع بدايات صدامها بالحركة الاستعمارية، بل وتأسيس كيانات سايكس بيكو (الدولة القُطرية)، بطريقة لا تخلو من إكراهات العنف في ترسيم الحدود وفي تأسيس هياكل الدولة، الأمر الذي انعكس في أدوات العنف الذي مارسته الدولة العربية الحديثة حيال مخالفيها فيما بعد، لا سيما ضد الإسلاميين، في حالات مشهورة ومعروفة.
والمفارقة، هنا، أن رؤية العنف في تصور الدواعش لا تبدو كما لو أنها وسيلة تكتيكية، بل تتجلى غاية مصمتة في ذاتها ولذاتها، وبطريقة تناظر رؤيتهم للعالم الحديث؛ تلك التي تقوم على النظر إليه ككتلة واحدة، من دون أي اعتبار لمنطق القوانين التي تحكمه، وموازين القوى التي تنظمه، أو لردود الفعل التي يمكن أن تتولد على عنفهم الأعمى، وما يمكن أن يؤدي، وفق نظام هذا العالم، إلى مصائر مختلفة لكل ما يتوقعونه من خلال نظرتهم الدوغمائية تلك، تماما كما حدث للمنطقة عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول2001؛ إذ ظنت القاعدة بتلك التفجيرات أن العالم سيكون كما كان قبلها، فكانت آثارها الكارثية لا تزال تتناسل حتى اليوم.
ستكون احتمالات العنف المرتدة، والمصاحبة للعنف الذي يؤدي إلى خلاص العالم من داعش، كارثية بما لا يمكن تصوره من محارق في المدن التي يسيطر عليها التنظيم، لأن نهايات العنف المؤدية إلى الموت هي المصائر المرغوبة من عناصر هذا التنظيم في صراعه مع العالم.
يشبه استخدام العنف الداعشي دوائر الفوضى فهو عنف له بداية، وليست له نهاية. ولهذه الناحية، يختلف عن عنف الدولة المعاصرة وقوانين العنف التي تحكم علاقات العالم، تلك التي تتحكم في بدايات العنف ونهاياته، حتى في أكبر مشاهد العنف التي شهدها القرن العشرون، إبان الحربين العالميتين.
لعل من أهم الإشكالات التي تواجه محاربة هذا التنظيم، اليوم، أن الولايات المتحدة فيما هي تدير الحرب عبر استراتيجية جوية، من خلال قوات التحالف، لا تكاد تتوفر على إدراك تام بطبيعة الصراع في هذه المنطقة، ولا مع حدود العنف التي ستنتهي إليها المعركة، لا سيما في ظل إدارة الديمقراطيين.
ذلك أن الانسداد الذي يحكم مسار حركات العنف الإرهابي، في منطقة الشرق الأوسط، في علاقتها الجدلية بدولة القمع العربية، هو انسداد نسقي متصل بممارسات تلك الدولة، فالأخيرة، فيما ظلت باستمرار تضمن للولايات المتحدة أوضاعاً تمدها بأسباب الهيمنة والأكلاف اليسيرة للمواد والثروات، كانت، من ناحية، بمثابة الشرط الشارط لبروز مثل تلك الحركات المتطرفة وتناسلها، ما يعني أن الجهود التي ستبذل، اليوم، في القضاء على داعش، بعد حريق كبير، ستبدو بلا طائل تقريباً، ما دامت جذور العنف والقمع الذي تنبته الدولة العربية في تربة هذه المنطقة باقية. يستعرض داعش عنفاً هوليودياً في خطابه الإعلامي، ويضمر بذلك تماهياً مع صور العنف الحديث والآكشن، كي يجتذب انتباه المراهقين وصغار السن، إلى جانب خطابه التعبوي التبسيطي الذي يجد رواجاً بين المراهقين من أبناء الجاليات المسلمة في الغرب، ما يعني أن هذا التنظيم واعٍ تماماً بمؤثرات مشاهد الصور السينمائية، وأهميتها الرقمية القابلة للتداول عبر وسائط عديدة للتواصل الاجتماعي. لذلك، يمارس داعش عنفاً مركباً ومتصلاً في جوهره بهوية العنف الذي أفرزته الحداثة، ويضخ قابلياته بعروض متجددة في مخيال الأجيال الجديدة، لا سيما تلك التي تعيش في الغرب، لأنها الأكثر توفراً على استخدام تقنيات البرامج الرقمية والإلكترونية، والأكثر اغتراباً عن هويتها الإسلامية، ومن ثم هي الأكثر قابلية للتفاعل الخطير مع أطروحاته الحدية والمبسطة.
ولعل هذا ما يفسر لنا وجود آلاف المقاتلين الأوروبيين في صفوف هذا التنظيم الذين قدموا خدمات تقنية متقدمة في عروض الموت المقننة بأدوات ووسائل تقنية حديثة، أين منها وسائل "القاعدة" البدائية؟