الأساسُ في احتفال الأوّل من أيّار "عيد العمّال" وباختصار هو في ظهور العديد من حركات الاحتجاج أواخر القرن الثّامن عشر في أستراليا كما في أميركا وكندا لاحقًا؛ بهدف المطالبة بتخفيض عدد ساعات العمل إلى ثماني ساعات يوميًّا، ليصار تدريجيًّا وخلال القرن التاسع عشر وما بعده إلى تحديد هذا اليوم كمنطلق للتظاهرات والإضرابات العمّاليّة بطابعٍ فوضويٍّ لاسلطويٍّ شعبيّ وكأنّه فعلًا ترميزٌ سنويٌّ للتأكيد على ضمان حقوق العاملين وحرّياتهم بشكلٍ دائم.
وعليه، فإنّ الموروث الثّقافيّ الحاليّ -في العموم- مازال مليئًا بالعبارات التي تُمجّد العمل كقيمةٍ عليا للإنسان ومعنى حقيقيّ لوجوده، كما تعاظمت أفكار تسعير الأفراد من خلال تأثيرهم المجتمعيّ بناءً على شكل المهنة الّتي يمارسونها مقارنةً مع حاجة مجتمعاتهم الوقتيّة لها، كأن نقول إنّ الرسّام مثلًا، في بلدان النّزاعات، لا تقل فقط قيمته العمليّة بل حتّى قيمته الإنسانيّة مقارنةً مع الأطبّاء أو العسكر.
تقديسُ العمل، وتسويقُ اعتبار هذا التقديس من البديهيّات؛ على أنّه جوهر وجود الفرد وأنّ الجميع يجب أن يعمل وأن يكون منتجًا دائمًا ومخلصًا لعمله حتّى عمرِ عجزٍ متأخّر، هو أيضًا من النتائج الّتي مهّد لها العديد من فلاسفة القرن الفائت -كمن سبقوهم- من خلال مراجعات فكريّة عدّة ما زالت رائجة وبقوّةٍ حتّى الآن، وهي التي تحمل أوجهًا يغلب عليها طابع التنميق الثّوريّ والإشراق الإنسانيّ الحقوقيّ فيما هي، في الواقع، تكرّر وتكرّس تفعيل وتلقين مناهج استعباد النّاس وتنظيم طاقاتهم وتحديدها حسب حاجات السّلطة -أيّ سلطة.
ولو أنّ تأثيرات أفكار "ماركس" على هذا العيد العالميّ المُفتَرض ما زالت هي المُنتصرة والرّائجة مقارنةً مع غيره، باعتباره أحد أهمّ المُنظّرين مثلًا لفكرة قيمة العمل المُتخلّص من السُّلطة الرأسماليّة، لكنّه أيضًا لم يقم بانتقاد أصل فكرة الرّبط بين الوجود الإنسانيّ والعمل المرافق له، لا بل هذا بديهيّ؛ ولأسبابٍ تأخذ قيمتها من التفلسف الماديّ الثّوريّ: الجميع يجب أن يعمل.
لبرتراند راسل في "مديح الكسل" ملاحظات متشابهة بهذا الخصوص، بدايةً باعتبار العمل وسيلة لا غاية، ثمّ عن وصف ساعات العمل الطّويلة بالخدعة الحكوميّة والجنون القاتل المخرّب للحياة، حيث كان يدعو لاختيار نوعيّة أيّ ممارسة لأيّ فعلٍ مُفضّل وقضاء وقتٍ بسيط فيه، ولتقليص ساعات أيّ عملٍ مدفوع الأجر قدر المُستطاع، هذا طبعًا مع التّذكير بمراحل عبوديّة كانت كتابة الشّعر مثلًا فيها أو الرّقص خاصةً بالأسياد؛ فيما كان العبيد يقومون بالأعمال الشّاقة طوال النّهار، وطبعًا من سيعمل لوقتٍ أطول هو العبدُ الأفضل والأكثر أمانًا معيشيًّا.
بول لافارغ، (1842-1911)، يرى أنّ الجنون ذاته هو في "حبّ العمل" والشّغف به، ثمّ في ما سيتبعه من التأثّر النّفسي السلوكي الإحباطيّ لدى الأفراد الذين يقومون بمهمات بسيطة لا تتطلب الكثير من الجّهد أو التفكير، مقارنةً مع وجودهم في مجتمعات تنافسيّة ترفع من شأن أيّ قوّة وذكاء في أيّ نطاق احتياجيّ؛ سيظنّ "العاديّون في مِهَنِهم" أنّهم أقلّ قيمةً من أن يكونوا أحياء، أو على الأقل، أنّهم مجرّد أرقام غير نافعة.
الحقّ في الكسل، هو عنوان الكرّاسة الّتي من خلالها حاول لافارغ الرّد على ما يُسميّه جنون حبّ العمل وكذبة أفكار "الحقّ" في العمل وضرورة مطالبة الحكومات بتأمين أعمال لمواطنيها. هذه الأيديولوجيا بتداعياتها ومهما فعلت فهي تحافظ على خنق حيوات معظم الطّبقات الاجتماعيّة وتحويل إدراكهم إلى الانجذاب نحو مفاهيم آليّات خدماتيّة منتِجة ومفيدة لرغبات الأسياد الأكثر ثراءً وسلطة، بالتالي رفع مردوديّتهم حتّى أعلى الدّرجات وإنهاكهم التّام وترويض طاقاتهم، كلّ هذا طبعًا سيترافق -وتبعًا لشدّة الأيديولوجيا- بشعورهم بالرّضى والسّعادة: إنّهم وطنيّون ووجودهم مهمّ لأوطانهم.
العبوديّة صعبة الهدم، في حال كانت سعادتك أن تنتظر راتبًا شهريًا، حسب تشومسكي. ليس هذا دفاعًا عن اللاعمل بشكلٍ مطلق، بل هو مجرّد ملاحظة عن وجوب المطالبة المُستمرّة بتخفيض عدد ساعات العمل وتنظيمه بحيث لا يقضي على بقيّة حقوق من ما زالت تعيش السّلطات على استعبادهم بشكلٍ كامل، كما البدء بتغيير مفاهيم تربط قيم الوجود الحقيقيّ العميق بشكل المهنة وأجرها وحاجة المجتمعات لها.
هذا دفاعٌ عن حقّ العمّال في امتلاكِ وقتٍ كافٍ للّهو.
* شاعر سوري مقيم في إسطنبول