الضحية والجلاد يجتمعان زمانيا في ليلة واحدة، هؤلاء إحياء لذكرى نكبتهم وتعزيز الوعي بقضيتهم والتسلح بالأمل، وأولئك احتفالا بأنهم كانوا سبب تلك النكبة، بعدما اغتصبوا الأرض ونهبوا خيراتها.
وحرص أهالي القرية على اصطحاب الأطفال، كما كان حضور الشباب لافتا، تأكيدا لتثبيت الرواية وتناقلها من جيل إلى جيل.
كل من دخل إلى القرية المهجرة وقع بصره على لوحات من معرض صور للفنانة سلوى عثمان، علقت على حجارة عين الماء، والتي توثق لتاريخ القرية، بمبانيها وأحيائها.
كما تم استحداث فقرة لم تشهدها النسخ السابقة من "ليلة العودة إلى الدامون"، لاقت استحسان الحضور، إذ أجرى بعض الأحفاد حوارات مع أجدادهم وجداتهم، كما جرى تكريم مبدعين مهجرين أصلهم من الدامون.
وعبرت حكايات الدامون الحدود، فتم التواصل هاتفيا مع أهالٍ أصلهم من الدامون، لجأوا بعد النكبة إلى لبنان، في مشهد مؤثر.
فرج كامل شعبان (أبو مزهر) المهجر من الدامون، والذي يقطن اليوم في قرية شعب جلس، يستذكر بعض الأحداث بقوله: "كان عمري 13 عاما. خرجنا إلى وادي شعب، ومن هناك رأينا الناس يخرجون ويرددون أن اليهود استحلوا الدامون وبلدات أخرى. توجهنا إلى قرية نحف وسكنا هناك شهرين، وأذكر أن عادل عبد الحميد البقاعي (من أهل الدامون) بدأ يبكي ويقول: أريد العودة إلى الدامون".
وتحدث أبو مزهر عن التعايش الذي ساد في القرية، مؤكدا: "كنا جميعا من مختلف العائلات، ومن الطائفتين الإسلامية والمسيحية، نعيش معا بسلام، ونتبادل التهاني في الأعياد".
عجوز تجر نفسها
عجوز طاعنة في السن تقدمت إلى المنصة تجر نفسها، وهي التي باتت لا تعرف كم مضى على عمرها.
إلى جانبها جلست حفيدتها ريم، محاولة استثارة ذاكرتها. "أنا فاطمة حسن عثمان من قرية الدامون المهجرة عام 1948"، قالت قبل أن تصمت وتتلفت حولها متأملة المكان.
كلام الحاجة فاطمة كان إقرب إلى النواح منه إلى الحديث، معجونا بالألم، إذ تابعت: "ما خلينا بلد ما رحنا عليها. وصلنا ساجور والرامة ودير حنا ومخلناش (لم ندع) بلد غير ورحناها. والله يما لنوصي ولد ولدنا، بلاد الغربة ما يسكنوها. بلاد الغربة ذلتنا. وإن شاء الله يما بتظلكوا (تبقون) سالمين غانمين".
واستذكرت مشهد الحياة والعمل في الدامون: "كنا نزرع سمسم، ذرة وعدس وخيرات كثيرة، كانوا يأتون من عدة بلدات ليستفيدوا من خيرات الدامون".
الحاجة ميسر ريان– زيداني تحدثت هي الأخرى عن ذكرياتها. كان عمرها 10 سنوات عندما تم تهجيرها مع أهل القرية.
وقالت إنها تعاني من المرض منذ أيام، لكنها لم تكن لتفوّت لقاء في الدامون، مستدركة "سلام سليم أرق من النسيم من قلب مجروح إلى أحباب الروح".
وأضافت: "نحن هنا (مشيرة إلى مكان تنظيم الأمسية) في حارة الزيادنة، وكانت عائلة جدي وكل الجيران يجتمعون هنا. في عام التهجير، كنا ندرس القمح والشعير، فبدأت تنهال القنابل فجأة من جهة قرية البروة المهجرة اليوم أيضا. ومع هذا استمرينا بالحصيد.. خرجنا إلى قرية شعب المجاورة، ووجدنا أيضا أهالي من البروة، وإلى هناك أيضا وصلت القنابل، فخرجنا جميعا مرة أخرى ومشينا حتى وصلنا دير الأسد والبعنة، وبقينا لصيف كامل تحت الزيتون بلا ماء ولا طعام. وفي الشتاء دخلنا إلى قرية مجد الكروم حيث تم استضافتنا، ومن ثم توجهنا إلى قرية جدية، ومن ثم إلى قرية طمرة. وآخرون ساروا باتجاه الحدود، ووصلوا لاحقا إلى لبنان وسورية".
ولفتت إلى أنها "كانت رحلة عذاب طويلة". وقالت: "في وقت لاحق، كنا نرى المحتل يحصد خيراتنا في الدامون ويهدم بلدنا. كنا أطفالا وكنا نبكي بحرقة وشدة"، موضحة أنه في مرحلة لاحقة "احتاج أهالي الدامون إلى تصاريح لكي نستطيع دخول قريتنا، لقطف التين والصبر، أو لنأخذ منها بعض الحطب".
كما مر بذاكرتها والدها، وتحدثت عن ركوب الخيل معه ومساعدته في العمل. "أنا حياتي في طفولتي كانت جميلة، وكان عندنا خيل وأركب الحصان. كان حصاني اسمه نجم، ولم يترك أبي أحدا يمتطيه سواي".
تكريم المكان والزمان
كرّم رسام الكاريكاتير نهاد بقاعي، ابن قرية الدامون المهجرة، في الأمسية، إذ قال: "شرف كبير، هو شرف تكريم المكان والزمان، وبرأيي هذا التكريم لا يقدر بثمن في الحقيقة لي حتى مماتي، سأبقى أني كرمت في أرض عزيزة على قلبي وقلوب الجميع. أوجه التحية لجميع أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان، وخاصة في الشتات، والذين لا يستطيعون زيارة قراهم المهجرة".
وأضاف بقاعي: "سلام للجميع في ذكرى نكبة شعبنا الأليمة. وعن أهالي البلدات التي استقبلت اللاجئين أقول سلام لجميع أهالي البلدات الموجودة الذين نتقاسم معهم رغيف الخبز وشكّلنا معا وسويا الوطن الواحد الجميل.. سلام إلى كابول وطمرة وشفاعمرو وشعب وعكا، وكل بلدة في هذا الوطن تتقاسم معنا نفس الألم".