في كلّ مرة كانت تُستعاد لوحة بيكاسو الشهيرة "تمثال امرأة نصفي" بعد سرقاتها المتكررة، كان يتم التذكير بأنها بورتريه دورا مار الذي لم يكتف الفنان الإسباني برسمها عام 1937، لكنه أقنعها أن تترك التصوير الفوتوغرافي وتتجه نحو الرسم؛ نصيحة ضمن حكاية ظلّت محلّ تشكّك لدى جمهور من النقاد حتى اليوم.
الصلة التي جمعت بيكاسو والفنانة الفرنسية ذات الأصول الكرواتية (1907 – 1997)، قادت إلى إحدى محطّات التجريب الأساسية في حياة صاحب لوحة "غرنيكا"، والتي رُسمت بتأثير منها بعد أن وصفت له تفاصيل المذبحة في القرية الباسكية بعد أن قامت بتصويرها، وقادته أيضاً إلى اتخاذ كثير من مواقفه السياسية ضد الدكتاتورية.
قصص وأحداث كثيرة ترتبط بعلاقته المجنونة مع دورا مار التي أصبحت رسامة وشاعرة لكنها لم تنل حظّها من الاهتمام، وهي التي يستكشفها معرض استعادي افتتح مؤخراً في "غاليري تيت مودرن" اللندني ويتواصل حتى الخامس عشر من آذار/ مارس المقبل.
يحتوي المعرض أكثر من مئتين وخمسين صورة فوتوغرافية ولوحة، والتي تتنوّع موضوعاتها بين الأزياء والموضة والإعلانات وهي أعمال قد تكون معروفة لكثيرين دون معرفة بصاحبتها. ومن أبرز ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن العديد من الأعمال عكست انتماءاتها اليسارية في تلك الحقبة خصوصاً وهي تقوم بتصوير مآسي الحروب والفقراء، والتي لم تكن من المحاور التي يُلتفت إليها غالباً.
تركّزت الإثارة لدى مار في تلاعبها بالضوء والعتمة عبر التحكّم بتقنيات المونتاج سواء في تصويرها عدداً من النساء في حالات مختلفة، يشكّل غالباً خيالهن المتضخّم عنصراً رئيساً في الصورة ويفرض تبايناً أو تناقضاً مع الجسد ما يمنح تركيب الصورة شكلاً من أشكال التوازن، وبالطريقة ذاتها قدّمت موضوعات أخرى مثل صورة الصبي بحذاء ناقص.
قدّمت الفنانة أيضاً أعمالاً مزجت فيها الرسوم والمطبوعات والفوتوغرافيا في سياق بحث بصري حاول الجمع بين عناصر عديدة، في مقّدمتها السوريالية التي سادت في تلك المرحلة، مع توظيف للتجريد الهندسي ومفردات تبدو محاكاة لتكعيبية بيكاسو، الذي يُخصّص جزء من المعرض لتعاونها معه على سلسلة من الصور التي تجمع بين تقنيات التصوير الفوتوغرافي وتقنيات الطباعة.
ذلك الأثر البيكاسوي دفعها إلى الاحتفاظ بالعديد من رسومها من دون عرضها، وجعلها تخوض صراعاً حقيقياً حول سبل تطوير تجربتها، خاصة بعد انفصالها عن صاحب "المرأة الباكية" في الخمسينيات، فلم يُكشف عن رسوماتها كاملة إلا بعد رحيلها أو قبل ذلك حين انسحبت من الأوساط الفنية وأقامت في شبه عزلة في بيتها الباريسي الموحش.
من بين الصور المعروضة، تظهر في واحدة منها لامرأة مع بقعة ضخمة من فقاعات الشامبو على رأسها في إعلان كان يتصدر أغلفة إحدى المجلات الأسبوعية المنتشرة حينها، وهي لقطة تبرز فترة الكساد التي عاشتها أوروبا خلال الثلاثينيات.
في عدد من الأعمال، تظهر تجارب تدمج بين الكولاج والتركيب الضوئي، والعديد من البورتريهات ورسومات بالألوان المائية والمناظر الطبيعية الزيتية، وتصاميم النسيج، كما تُعرض لوحتها "المحادثة" (1937) التي تدير ظهرها بينما تجلس بجوارها عشيقة بيكاسو الثانية ماري- تيريز والتر تنظر مباشرة للمشاهد، إلى جانب أعمال تجريدية تعتمد فيها على الحركات وإيماءات الجسد، والتي أنتجتها بغزارة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
قالت مار ذات مرّة "عليّ أن أسكن في الصحراء. أريد أن أخلق هالة من الغموض حول عملي. يجب على الناس رؤيتها مطوّلاً"، وأضافت "ما زلت مشهورةً جداً كواحدة من عشيقات بيكاسو بحيث لا يمكن قبولي كرسامة". تشكل هذه الكلمات جزءاً من حديثها مع الكاتب جيمس لورد والذي أوردها في كتابه "بيكاسو ودورا"، فهل ستتغيّر النظرة تجاهها بعد أكثر من سبعة عقود ظلّت "أعمالها تُعرض ولا تطلب" طوال تلك الفترة، أم يبدو ذلك مستحيلاً؟