27 اغسطس 2020
دول عميقة وربيع آخر.. وجيوش
منذر الحوارات
منذ انطلاقته في العام 2011، جرت مياه كثيرة في نهر هذه المحاولة التاريخية التي خاضها الشباب العربي، وعُرفت اصطلاحاً بالربيع العربي، ساقتهُ إليها محاولة لزحزحة واقعهِ الصعب، من فقر وغياب للحرية والعدالة، كان كثيرون يتمنّون أن يُغمضوا أعينهم ليصحوا على دولهم وهي ديمقراطية، متطوّرة، تتحقق فيها معايير ومقاييس حقيقية للمواطنة.
تحطم ذلك الحلم بالنسبة لكثيرين على أسوار دمشق، وجبال اليمن وصحراء ليبيا، وضراوة الدولة العميقةِ في مصر، وبدا أن هذا الحلم تتناسب قوته عكسياً مع قوة الجيوش، وتماسك الشِلَل الحاكمة ومتانة المؤسسات البيروقراطية، فأصاب ذلك كثيرين بحالةٍ من النكوص وخيبة الأمل، فأي محاولةٍ للتغيير محفوفةٌ بمخاوف هائلة على الدول أولاً وإمكانية تفكّكها، لأن نظم الحكم لم تبن دولاً على أسس تكون فيها قابلةً للاستمرار، بل جعلتها على مقاس حاجة النظام الحاكم، تنهار بزواله، وهذا ما ولّد الخوف على الأمن الذاتي لكل حالم بالتغيير، فأن تطالعك الأخبار، في كل لحظة، بتفجيرٍ هنا وموتٍ وخرابٍ هنالك، فذلك كفيلٌ بأن يوقف أي رغبة في التقدم، ولو بخطوة صغيرة لأجل التغيير. لكن مهلاً! قبل الإمعان في التشاؤم، وبدون سابق إنذار، بدأت الأمور بالتحرك، وإنْ على استحياء.
لكن ثمّة بارقة أمل تلوح في الأفق، ففي السودان، بدأ الحديث، منذ أشهر، عن تحرّك شعبي في أكثر من مكان، رفضاً للحال الاقتصادي السيئ، وصل إلى ذروته قبل أربعة أشهر، حينما
اصطف الناس بالطوابير لمحاولة الحصول على رواتبهم، بعد أن جفت خزائن الدولة من المال اللازم لإدارة العملية الاقتصادية، بسبب الفساد الذي قادته مجموعة من النخب والعائلات التي حوّلت الاقتصاد إلى الشكل المافيوي، بحيث تفرض صيغةً احتكارية، تخرج التعاملات من إطارها التنافسي إلى استبدادي، تفرض فيه شروطا قاسيةً على أي متعامل، ما ألغى أي فرصٍ حقيقيةٍ للاستثمار والتنمية، تبعت ذلك أزمة الخبز، والتي كانت لها طوابيرها أيضاً. واستثمر الرئيس عمر البشير ذلك بالتخلص من شركاء كثيرين له في الحكم، وعسكر الولايات والدولة، فأقصى حزبه والأحزاب الشريكة له في الحكم، وحمّلها مسؤولية ما يحصل، واعتقد بهذا أن الأمور قد تهدأ، ويمارس طريقته التقليدية نفسها التي تمرّسها في المرات السابقة.
وفي الجزائر، حال الرئيس مقعدا وغائبا عن الناس منذ سنوات، بسبب جلطةٍ دماغيةٍ جعلتهُ غير قادر على الحركة أو الكلام، أبعدهُ عن أي حضور حقيقي في الحياة العامة، لكنه قرّر الترشح لولاية خامسة، متحدياً الأسس الصحية للمنصب، ما أدى إلى غضب جماهيري. خرج الجزائريون إلى الشارع في مسيراتٍ بدأت في 22 فبراير/ شباط رفضاً للترشيح، وتطورت، في جمعتها الثالثة، باستقالة الحكومة، تلتها الدعوة إلى إضراب شامل، تمخضت عن إعلان بوتفليقة عدم رغبته في الترشح لعهدة خامسة، وتعيين رئيس وزراء جديد. تدخل قائد الجيش محذراً، إثر اكتشافه مؤامرةً من القوى غير الدستورية، كانت غايتها إقصاء الجيش من عملية التغيير المرتقبة لاحتواء مطالب الجماهير، فكان التحذير بضرورة اللجوء إلى مواد دستورية تتيح عزل الرئيس، وهذا ما تم.
وأعطى ما يحدث في الجزائر الحراك في السودان زخماً وقوة وإصراراً. تزايد عدد المتظاهرين، وازداد معه الإصرار على إطاحة الحكم وأركانه، وهذا ما كان بعد أسبوع من ازدياد الزخم، وما يقارب ستة أشهر سبقته. تمت إطاحة رأس النظام، عمر البشير، بانقلابٍ عسكريٍّ، قاده رئيس الأركان، عوض بن عوف، وشكل مجلسا عسكريا لقيادة البلاد، وحل الدستور وأعلن حالة الطوارئ، وسلسلة إجراءات التي تقيد الحياة العامة.
ما الذي يمكن استخلاصه من الحالتين؟ أولا، سرعة إطاحة رأس النظام، ما يفيد بأن قمة هرم السلطة ليست سوى واجهة لمؤسساتٍ دونه، تهيمن، وتستحوذ على كل القرارات المتعلقة
بالسياسة والاقتصاد والشأن العام، فإذا كان لا بد من التغيير فسيقتصر فقط على القشرة الخارجية، والتي يسهل ترميمها بسرعة بإيجاد بديل مقبول. ثانيا، تدخل الجيش في الحالتين، ومحاولته أن يكون الفاعل الأول في صناعة المستقبل. وقد كان الجيش في الحالتين، وعلى مدى عمر النظامين، القوة القسرية القامعة التي مكّنت النظامين من البقاء بقمع أي تحرك شعبي مناهض لهما. ولكن تجذر الجيش بشكل أفقي في الجزائر، وصعوبة انقسامه، أو تفتت عناصره، يؤكدان انطباق مقولة خطيب الثورة الفرنسية، ميرابو، عن بروسيا، على الجزائر، وهي إن لكل دولة جيشاً، إلا الجزائر فإن للجيش دولة. أما السودان فتوحي التطورات بسهولة انقسامه على نفسه، يدل على ذلك الانقلاب السريع الذي قاده الفريق أول عبد الفتاح البرهان على بن عوف، وأعقبته استقالة ثلاثة ضباط، ويضع ذلك كله احتمال نشوب حرب أهلية في السودان، ما لم يتم الحل على أسس ترضي الجميع.
الاستخلاص الثالث هو بقاء المحتجين في الشوارع، واستمرار مطالبتهم بتغيير جذري للنظام، من دون محاباة لأي طرف. صحيح أن الاحتجاج في السودان استطاع أن يؤطر الحراك بتنظيماتٍ سياسية أبكر من الجزائر، فالجسم الرئيسي الذي أفرزته الاحتجاجات كان تجمع المهنيين المتحالف مع مجموعة من الأحزاب. وفي الجزائر، لم يتأطر الحراك بعد في مجموعة من الأحزاب، أو قوة واحدة وازنة، تستطيع الادعاء أن الشارع يتبع توجيهاتها. وهذا إن استمر لربما يكون الثغرة التي يمكن أن ينقض منها أنصار الدولة العميقة، والقوى غير الدستورية التي تستطيع، بحكم خبرتها في الحكم، التلون بألف لون.
الاستخلاص الرابع هو اللعبة التقليدية، فقد تُستثمر المخاوف الأمنية لدى الغرب، ويجري الادعاء بوجود عناصر إرهابية جاهزة لتفجير الوضع. ولا ضير من عملياتٍ وهمية في غير مكان، قادرة على تفجير الهلع الأوروبي والغربي من موجات لجوء قادمة، ما يجعلها حليفةً لأي قوةٍ تفرض الاستقرار، وإن كانت غير ديمقراطية. المهم ألا يمتلئ المتوسط بالمهاجرين
والجثث، وينطبق هذا الاحتمال على الجزائر أكثر من السودان، وللجغرافيا والعلاقات التاريخية دورها الفاعل هنا، فما زال التحول الديمقراطي في البلدين يراوغ، ليس بسبب غياب المحفّزات كما يُروّج، بل لأسبابٍ داخليةٍ، قوامها قمع القوى القسرية للدول المدعومة من مجتمع دولي، لا يريد المراهنة على مستقبل ديمقراطي غير مضمون العواقب، من حيث الأمن والتبعية لتلك الدول، فماذا يفعل الطامحون إلى الديمقراطية مع هذا الواقع؟ هل يستسلمون له، ويرضون بواقع صعب، بدل المراهنة على مستقبل غامض تحفّهُ المخاطر والصعاب؟ ومع ذلك، ليس ثمّة كثير كي يخسره الجزائريون والسودانيون في بلديهما، وهم لا يمتلكون سوى قوة وحيدة، هي قدرتهم على التجمهر السلمي في الطرقات والشوارع في مواجهة دول عميقة وجيوش ومافيات اقتصاد، ومجتمع دولي لا يرى من العالم الآخر سوى مصالحه ومخاوفه الأمنية.
وما ينطبق على البلدين انطبق وينطبق على أغلب الدول العربية، شعوبها تنظر إلى تجربتيهما كي تستلهم منها مستقبلاً، ولكن الطرف الآخر، أي مؤسسات الحكم في هذه الدول، لا تتمنى لهذه المحاولات النجاح، لأن في ذلك انتشارا للتجربة قد يطاولهم هم أيضاً. وتبقى إرادة الشعبين، ومقدرتهما على الصبر، واجتراح طرق جديدة، البارقة التي تعلق عليها المنطقة آمالا عريضة.
تحطم ذلك الحلم بالنسبة لكثيرين على أسوار دمشق، وجبال اليمن وصحراء ليبيا، وضراوة الدولة العميقةِ في مصر، وبدا أن هذا الحلم تتناسب قوته عكسياً مع قوة الجيوش، وتماسك الشِلَل الحاكمة ومتانة المؤسسات البيروقراطية، فأصاب ذلك كثيرين بحالةٍ من النكوص وخيبة الأمل، فأي محاولةٍ للتغيير محفوفةٌ بمخاوف هائلة على الدول أولاً وإمكانية تفكّكها، لأن نظم الحكم لم تبن دولاً على أسس تكون فيها قابلةً للاستمرار، بل جعلتها على مقاس حاجة النظام الحاكم، تنهار بزواله، وهذا ما ولّد الخوف على الأمن الذاتي لكل حالم بالتغيير، فأن تطالعك الأخبار، في كل لحظة، بتفجيرٍ هنا وموتٍ وخرابٍ هنالك، فذلك كفيلٌ بأن يوقف أي رغبة في التقدم، ولو بخطوة صغيرة لأجل التغيير. لكن مهلاً! قبل الإمعان في التشاؤم، وبدون سابق إنذار، بدأت الأمور بالتحرك، وإنْ على استحياء.
لكن ثمّة بارقة أمل تلوح في الأفق، ففي السودان، بدأ الحديث، منذ أشهر، عن تحرّك شعبي في أكثر من مكان، رفضاً للحال الاقتصادي السيئ، وصل إلى ذروته قبل أربعة أشهر، حينما
وفي الجزائر، حال الرئيس مقعدا وغائبا عن الناس منذ سنوات، بسبب جلطةٍ دماغيةٍ جعلتهُ غير قادر على الحركة أو الكلام، أبعدهُ عن أي حضور حقيقي في الحياة العامة، لكنه قرّر الترشح لولاية خامسة، متحدياً الأسس الصحية للمنصب، ما أدى إلى غضب جماهيري. خرج الجزائريون إلى الشارع في مسيراتٍ بدأت في 22 فبراير/ شباط رفضاً للترشيح، وتطورت، في جمعتها الثالثة، باستقالة الحكومة، تلتها الدعوة إلى إضراب شامل، تمخضت عن إعلان بوتفليقة عدم رغبته في الترشح لعهدة خامسة، وتعيين رئيس وزراء جديد. تدخل قائد الجيش محذراً، إثر اكتشافه مؤامرةً من القوى غير الدستورية، كانت غايتها إقصاء الجيش من عملية التغيير المرتقبة لاحتواء مطالب الجماهير، فكان التحذير بضرورة اللجوء إلى مواد دستورية تتيح عزل الرئيس، وهذا ما تم.
وأعطى ما يحدث في الجزائر الحراك في السودان زخماً وقوة وإصراراً. تزايد عدد المتظاهرين، وازداد معه الإصرار على إطاحة الحكم وأركانه، وهذا ما كان بعد أسبوع من ازدياد الزخم، وما يقارب ستة أشهر سبقته. تمت إطاحة رأس النظام، عمر البشير، بانقلابٍ عسكريٍّ، قاده رئيس الأركان، عوض بن عوف، وشكل مجلسا عسكريا لقيادة البلاد، وحل الدستور وأعلن حالة الطوارئ، وسلسلة إجراءات التي تقيد الحياة العامة.
ما الذي يمكن استخلاصه من الحالتين؟ أولا، سرعة إطاحة رأس النظام، ما يفيد بأن قمة هرم السلطة ليست سوى واجهة لمؤسساتٍ دونه، تهيمن، وتستحوذ على كل القرارات المتعلقة
الاستخلاص الثالث هو بقاء المحتجين في الشوارع، واستمرار مطالبتهم بتغيير جذري للنظام، من دون محاباة لأي طرف. صحيح أن الاحتجاج في السودان استطاع أن يؤطر الحراك بتنظيماتٍ سياسية أبكر من الجزائر، فالجسم الرئيسي الذي أفرزته الاحتجاجات كان تجمع المهنيين المتحالف مع مجموعة من الأحزاب. وفي الجزائر، لم يتأطر الحراك بعد في مجموعة من الأحزاب، أو قوة واحدة وازنة، تستطيع الادعاء أن الشارع يتبع توجيهاتها. وهذا إن استمر لربما يكون الثغرة التي يمكن أن ينقض منها أنصار الدولة العميقة، والقوى غير الدستورية التي تستطيع، بحكم خبرتها في الحكم، التلون بألف لون.
الاستخلاص الرابع هو اللعبة التقليدية، فقد تُستثمر المخاوف الأمنية لدى الغرب، ويجري الادعاء بوجود عناصر إرهابية جاهزة لتفجير الوضع. ولا ضير من عملياتٍ وهمية في غير مكان، قادرة على تفجير الهلع الأوروبي والغربي من موجات لجوء قادمة، ما يجعلها حليفةً لأي قوةٍ تفرض الاستقرار، وإن كانت غير ديمقراطية. المهم ألا يمتلئ المتوسط بالمهاجرين
وما ينطبق على البلدين انطبق وينطبق على أغلب الدول العربية، شعوبها تنظر إلى تجربتيهما كي تستلهم منها مستقبلاً، ولكن الطرف الآخر، أي مؤسسات الحكم في هذه الدول، لا تتمنى لهذه المحاولات النجاح، لأن في ذلك انتشارا للتجربة قد يطاولهم هم أيضاً. وتبقى إرادة الشعبين، ومقدرتهما على الصبر، واجتراح طرق جديدة، البارقة التي تعلق عليها المنطقة آمالا عريضة.
مقالات أخرى
28 يوليو 2020
25 يونيو 2020
17 ابريل 2020