"تسمية الأشياء بشكل سيئ، يزيد من شقاء العالم". هذه الجملة التي تنسب إلى ألبير كامو، تلخص في رأينا عمل الإثنولوجي الألماني ديتر هالر (Dieter Haller)، الصادر حديثاً بعنوان: "طنجة: الميناء، الأرواح، اللذة، دراسة إثنوغرافية" (Tanger Der Hafen, die Geister, die Lust. Eine Ethnographie).. إن عمله تنسيب لمشروع التحديث وفضح لسرديته. فهو حين يعطي الكلمة للألم، لمن تعوّد الخطاب الرسمي أن يتحدث باسمه (وفي هذا السياق المغاربة)، وأن يحرمه من حقه في الكلام، يعيد إلى الأشياء أسماءها.
لقد قدم ديتر هالر (1962) صوتاً ولغة ولحماً لرجل الشارع المغربي البسيط، الذي حرمه الخطاب الرسمي، العلمي منه والسياسي من حقه في الكلام. يجب أن نبتعد لكي نرى جيداً يقول الباحث الموضوعي، لكن أحيانا يجب أن نقترب ونحس ونعاني الآخر. إنه الدرس الذي يقدمه لنا ديتر هالر في عمله عن طنجة. إنه يعترف منذ البداية أنه يحب طنجة. هل تؤمن المقاربة العلمية بالحب؟ لا يرى هالر في حبه لطنجة عقبة أمام بحث تطور المدينة. إنه يجد في الباسيو Passio وهي كلمة لاتينية تعني الألم، منهجيته.
يتحدث ديتر هالر عن ثلاث خطايا اقترفها في هذا الكتاب، وهي كلها مرتبطة بحبه للمدينة. ولربما يحمل استعمال تعبير الخطيئة في هذا السياق، والذي نعرفه من الخطاب الديني نوعا من السخرية من الخطاب العلمي والسياسي السائد. الخطأ الأول قد نسميه الجوهرانية، فهو ينطلق من وجود ثقافة مغربية مستقلة عن شخص الإثنولوجي ورؤيته. فهو لا يريد دراسة الطفل الذي يسبح في الصهريج، ولا دراسة الماء الذي يسبح فيه، ولكنه يعتقد وضد الرؤية التي تدافع عنها الحداثة السائلة بوجود صهريج يحمل الماء والطفل.
فإلى جانب المنظورية التي يعبر عنها الطفل والسيلان المرتبط بالماء يتوجب في رأيه دراسة الصهريج أو السطل والذي يمثل نموذجاً ثقافياً ثابتاً، وهو ما قد يجعله يقترف في رأي أنصار الرؤية السائلة خطيئة الثقافوية أو الجوهرانية. إذن في رأيه هناك شيء اسمه ثقافة مغربية.
الخطيئة الثانية هي التي يطلق عليها مفهوم النوستالجيا. وهو يعني ذلك الحنين الذي يستبد بالأوروبيين إلى طنجة وعوالمها، وهي التي مثلت لهم في مرحلة ما الآخر المطلق للغرب وثقافته ورؤيته البيروقراطية إلى العالم.
والإثنولوجي الألماني يعبر عن ذلك غير ما مرة، كما في اعترافه بأنه يجد نفسه في رواية أنغيل فاسكيز مولينو "الحياة التعيسة لخوانيتا ناربوني" (La vida perra de juanita Narboni)، والتي لا تتحدث عن سيرة امرأة فقط، بل عبرها عن سيرة مدينة بأكلمها. مدينة طنجة، ويجدها بالخصوص في جملة مركزية في الرواية "أنا لست حداثياً" (Yo no soy moderna). قد لا نندهش إذن إذا قرأنا هجوم الإثنولوجي الحاد على الحداثة ومشروع التحديث الذي تعرفه طنجة، والذي أجهز برأيه على روح المدينة.
أما الخطيئة الثالثة التي يعترف باقترافها فهي ما يسميه بالدهشة الإيروتيكية. فأسطورة طنجة كما يتحدث عنها الأدب العالمي هي أيضاً وخصوصاً أسطورة إيروتيكية.
يمكن اعتبار كتاب ديتر هالر رغم تركيزه المطلق على طنجة، مقدمة لفهم مآلات المدينة المتوسطية الكوسموبوليتية في الضفة الجنوبية للمتوسط. إنه تطور حزين وبئيس ذاك الذي عاشته مدن مثل الإسكندرية وبيروت وطنجة. ربما يمكننا قراءة كتاب هالر أيضا كتأريخ لهذا السقوط والانهيار الذي أرّخت له بعض الروايات العربية مثل روايات الطاهر وطار ونور الدين سعدي من الجزائر.
إن طنجة اليوم برأي الإثنولوجي الألماني تعبيرعن نظام يمتح من منظومتين مترابطتين رغم اختلافهما الظاهري، منظومة قروسطية وأخرى نيوليبرالية. وحتى إذا أعلن الإثنولوجي الألماني في بداية كتابه أنه من المستحيل الإمساك علمياً بطنجة، فإنه يقدم بلا ريب تاريخ من لا تاريخ لهم داخل هذه المدينة. فهو غير مهتم هنا بالتاريخ الغربي للمدينة، غير مهتم بشخصيات مثل بول بولز وماتيس ودولاكروا أو بكتاب جيل البيتلز والهيبيز. كما أن كتابه لا يجب اعتباره كتاباً حول الهجرة وعلاوة على ذلك سيتجنب خلال مرحلة بحثه الميداني الخطابات الأكاديمية حول المدينة وسيتجنب الالتقاء بالمثقفين المغاربة.
يتحدث هالر في الفصل الأول من كتابه عن البيت الذي سكنه خلال بحثه الميداني في المدينة. يعكس تاريخ هذا البيت تاريخ المدينة. وبلغة أخرى تاريخ تراجع المدينة رغم مشاريع التحديث. وهو تراجع أو انهيار لا يجب أن نعيده بالضرورة إلى ما يسميه هالر بالمغربة أو التأميم، ففي السياق العربي لا يمكننا أن نتحدث إلا عن دولة ضد المدينة.
ولا يمكن للقارئ المغربي أن يعترض على وصفه للتطور الذي عرفته المدينة، إذ لا يمكن، كما عبر بحق، الحديث عن طنجة اليوم كمدينة كوسموبوليتية، وهي اليوم تعرف بالأحرى صراعاً خافتاً بين سكان المدينة الأصليين والقادمين الجدد من المناطق القروية إلى جانب أشكال صراع أخرى. إنه يتحدث عن ترييف المدينة الذي أعقب رحيل الأوروبيين واليهود عنها وكانت نتيجة محتومة للحكومات المتعاقبة للدولة المغربية. وهذا أيضا ما نقرأه في رواية أنغيل فاسكيز عن الإسبانية خوانيتا، التي ستجد نفسها فجأة في مدينة لا تعرفها بعد هجرة الأوروبيين عنها واختفاء مظاهر التعدد الثقافي الذي طبع المدينة خلال فترتها الدولية.
لقد مسّ التغير جوانب متعددة من حياة المدينة، منها مثلا لغة الحديث اليومية. ولا عجب أن يعبر بعض سكّان المدينة الأصليين للإثنولوجي عن سخطهم على سياسة المغربة ويعتبرون أن الاستعمار بدأ فقط سنة 1956. ففي رأي هؤلاء لم تكن طنجة مستعمرة، بل كانت مدينة دولية عرفت تمازجاً لثقافات مختلفة. وجاءت المغربة لتجهز على هذا الميراث الكوسموبوليتي.
يظهر ذلك من خلال تغيير الكثير من ملامح المدينة وترك بناياتها القديمة عرضة للانهيار، كما يقول لهالر أحد مؤرخي الحقبة الكوسموبوليتية لطنجة تفرسيتي زرويلة. في حين يعبر أحد الطنجاويين عن غضبه قائلا: "إنهم يريدون تحويل طنجة إلى سوق الأربعاء، قنيطرة أو بنسليمان". بل إن أحدهم سيحذرنا من أنهم يحاولون إرغام المدينة على ارتداء النقاب.
ستقود هالر مغامرته الإثنولوجية إلى التعرف على الزاوية الحمدوشية، والتي أصبح عضواً فيها، وعبرها سيكتشف ذلك البعد الروحي الذي غالباً ما لم يأبه به، كإثنولوجي غربي، قادم من ثقافة ملحدة. إن أهم اكتشاف له خلال لقائه أعضاء الزاوية الحمدوشية هو أن الإنسان ليس مركز الكون والمسؤول الوحيد عن حياته، ولكن هناك قوى كثيرة تشاركه مصيره وتتدخل فيه.. قد يبدو هذا الاندهاش بعوالم الحمادشة مناقضاً لأصول البحث العلمي الموضوعي، ولكن لا ريب في أن ما سيقدمه لنا في كتابه عن هذه الزاوية لم يكن ليقدمه لو لم يعش تجربتهم الروحية من الداخل، وهي التي ما تزال أصداؤها تتردد في أعماقه حتى بعد رحيله.
إن ديتر هالر يرفض كل التأويلات الوظيفية والنفسية الاجتماعية والحداثية لموضوعة الجن. وهو يعتقد مع إدوارد ويسترمارك بضرورة التعامل بجدية مع كوسمولوجية المؤمن ومن يقوم باختزال تلك الكوسمولوجيا إلى ظاهرة نفسية أو وظيفية لا يعطي اعتباراً للغريب. بل إن ديتر هالر يذهب أبعد من ذلك ويطالب بتطوير إثنولوجيا صوفية، تسمح للمنطق الداخلي للاعتقاد بالتعبير عن نفسه.
أمر مهم يمكن الوقوف عليه في كتاب ديتر هالر، وهو ذلك الربط الذ ي يقيمه بين الإسلام السياسي والمشروع التحديثي، وبلغة أخرى، إنه يقرأ الإسلام السياسي موضوعياً، كنتاج للحداثة وتناقضاتها، وتعبير عن عنفها أيضاً. عنف يتجلى كذلك في رفض حركات الإسلام السياسي التصوف، وفي هذا السياق، يشير هالر إلى تصريح معروف لراشد الغنوشي، يؤكد فيه أنه يتفق مع بورقيبة في محاربة التصوف، معتبراً أن التصوف لا يتوافق لا مع الديمقراطية ولا مع الإسلام.
لا عجب إذن أن يتحدث هالر عن مشروع التحديث كخطر على التعدد المجتمعي، لكن التحديث في صيغته الإسلاموية، ترييف للمدينة والفكر. ورغم تسجيل الألماني ديتر هالر محاولات النظام السياسي المغربي إحياء التصوف في شمال المغرب من أجل مواجهة الإسلام الراديكالي، إلا أنه لا يغفل أنه يرى في هذه المحاولات أيضاً تسييساً للتصوف، وعبر ذلك تأسيسٌ لشكل جديد من أشكال الإسلام السياسي.
لقد حضر هالر إلى طنجة ليهتم بسؤال محدد: إلى أي حد ساهمت المشاريع التحديثية للدولة المغربية في مدينة طنجة في محاربة الفقر في المدينة؟ سيتعرض في كتابه أيضاً للسردية الرسمية حول هذه القضية، وطبعاً، لن نجد فيها شيئا عن واقع المهمشين ومن ازدادوا فقراً في المدينة، ولربما يعبر ذلك بحق عن الانفصال الواقع داخل مجتمعات مثل المغرب، بين طبقته السياسية والشعب.
سيقوم الإثنولوجي الألماني بالدور الذي كان يتوجب على السلطات الرسمية القيام به، وسيلتقي بشخصيات من أسفل السلم الاجتماعي، سيصف صراع الباعة المتجولين مع الشرطة مثلا. يحكي معاناة الصيادين، وباعة السمك، بل اللصوص والحمقى المتشردين في المدينة أيضاً. كلهم سيلتقيهم هذا الرجل بطريقة أو بأخرى.. حتى أضحى الناس في المدينة يعتقدون أنه أحد أبناء المدينة القدامى.
لن يعمد هو بالضرورة إلى تقديم جواب عن السؤال المركزي في كتابه، بل ستلخصه آراء الذين التقاهم في تجواله المستمر، والذين سيتفقون كلهم على أن مشاريع التحديث التي تشهدها المدينة، لا تدمر فقط روحها الكوسموبوليتية، ولكن تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
يكتب ديتر هالر في نهاية كتابه: "لقد غيرتني طنجة، على المستوى الشخصي والمهني. ففي الخارج هناك عوالم أخرى وكوسمولوجيات أخرى ووقائع أخرى. الإثنولوجيون أدركوا ذلك دائماً. ورغم العولمة وسرديتها الكبرى والتي تريد نفسها مطلقة، فإن تلك العوالم ما تزال تملك منطقها". أما هذا الكتاب، يقول ديتر هالر، فليس سوى محاولة للتصالح مع الجن وطلب بركتهم!