"أغمض عينيك. قلْ لي ماذا توحي لك كلمة مغارة".
"مغارة علي بابا"، و"افتح يا سمسم" التي تسمحُ بالوصول إلى الكنز، تشبهنا كثيراً، نحن العرب، هذه الصيغة السمسمية الكسولة المباشرة.
المغارة توحي لي بذكرى مهد البشرية ورحمها، بالمجهول والمخيف. لم أرتجف طوال حياتي مثلما ارتجفتُ طفلًا عندما كنت أشاهد مسلسلًا (يعرض الأربعاء في تلفاز عدن أيّام الاحتلال الإنجليزي) يدور في كهوف الإنسان الأوّل، في طوره البدئي. بمجرّد اقتراب يوم الأربعاء كان يغشاني رعبٌ أزرق. ثمّ ارتبطت المغارة في صبا لاوعيي الدفين بسيرة التأمّل النبوي الشريف في غار حرّاء، وببرزخٍ من سبكِ الحديد يختفي خلفه قوم يأجوج ومأجوج.
للمغارات ذاكرة؛ تهجم عليّ بادئ ذي بدء ذاكرة سيّدة ممالك المغارات: البتراء. قصور، معابد، هياكل، أضرحة، أديرة، أروقة، أقواس، متاهات صخرية، حمّامات، صهاريج، قاعات احتفال، أسواق، صفوف من مدرّجات مزخرفة، بوابات، ردهات، محفورة كلُّها في أحشاء الجبال. صخورٌ ورديَّةٌ تتماوج عليها ألوانٌ متعدِّدة: حمراء، صفراء، زرقاء. البتراءُ مدينةٌ ورديَّةٌ تسبح في الظلال. يتسلَّلُ فيها هنا وهناك شعاعُ شمسٍ يخترق بعضَ الشقوق والصخور ليرسم فسيفساء، لُوَيْنَاتٍ متباينة، ظلالاً متماوجة. البتراء خلاء سوريالي. البتراء واجهة الأردن الأولى، ذاكرة عرب شمال الجزيرة. صرحٌ سياحي عربي لا مثيل له، يقودني إلى صرحٍ مهملٍ لا سياحة فيه، طالما تمنيت الوصول إليه، هو الامتداد الطبيعي للبتراء وحضارة الأنباط: "مدائن صالح" في محافظة العلا في السعودية. كيف السبيل لزيارة السعودية للسياحة؟ لا أعرف. كيف الوصول إلى مدائن صالح؟ هلوسات همس المنع الظلامي تصفع المرء كلّما حاول زيارتها: لا يجوز الذهاب هناك. عاش هناك قوم لوط الكفرة!
تقودني ذاكرة المغارات إلى بِلُوس هايتي ساس في جمهورية الدومينيكان: محمية صخور ونباتات صعدت من البحر قبل 15مليون سنة، إثر تغيرات مناخية زلزالية، فيها جزيرة بنت الريح، شدق الأخطبوط، جزيرة الطيور. الكهوف فيها كاتدرائيات تحت أرضية. أهمّ ما فيها: النقوش القديمة على الجدران. هنا: أربعة نقوش لبونايايا، نقوش حيوانات وطيور، شامانات، وإله المطر؛ أتوسلًا لانهماره، أم للتخفيف منه؟ وثمة ما يشبه الكاميرياء؛ مزيج تخييلي من حيوانات مختلفة في حيوان واحد. باهرٌ ومريع، لكأنّه المرحلة الأولى في بيوجرافيا نشوء فكرة الآلهة.
للكهوف هنا ذكريات أليمة: هربت إليها "تاينوس" آخر قبيلة للهنود الحمر الدومينيكان من قراها الآمنة، حيث كان أهلها ينامون على سرير أرجوحة من حبال، ولا سلاح لهم غير الرماح، حين حطّ عليهم عتاولة الغزاة الإسبان بمدافعهم المتحركة، وأمراضهم المعدية. مليون ونصف مليون قتيل وأكثر، في أبشع حرب إبادة جماعية عرفها التاريخ آنذاك.
للكهوف قصّة أولى وبدء: ذات يوم قديمٍ جدّاً فضّلَ شابٌ كسولٌ الجلوس في المغارة، في حين، خرج رفاقُهُ بِحِرابِهم للصيد. حاولَ النوم، لم يستطع. تراودُهُ فكرةٌ مثيرةٌ ورغبةٌ غريبةٌ في الآن نفسه؛ يأخذ خضاباً أحمر، ينقش به على جدار المغارة، بانفعالٍ كبيرٍ، ردفاً دائريّاً يعلوهُ خصرٌ بمنحنياتٍ غير ضاوية، يعلوه كثيبان ثريّان. لم ينقشْ قبل ذلك اليوم إلا خطوطاً تقريبيّةً تشبهُ حيواناتٍ ضارية، سباعاً كاميريائية تثير كلَّ إعجابِ وتقديسِ قبيلته. يعودُ رفاقُهُ بِغزال، يضرمون شعلةً لِشوائها قرب باب المغارة. يلمحُون مع ارتعاش وهجِ ألْسِنةِ النار ورقصِ ظلالِها على الجدران شيئاً غريباً يتلألأ ؛ نقشٌ جديدٌ يُشبهُ: خاصرة؟ ورَك؟ صخبٌ، فرحٌ ومرح. فوضى بريئة. في تلك اللحظة التي بدأ فيها الاحتفال الفنيّ بالمنحنيات الساحرة: بدأ الإنسان.
ثمة رحلة، بدأت بالقمم وانتهت بمغارات الكهوف تحت الأرضية! في منتجع سياحي في قلب الغابة الاستوائية الماليزية، يبدأُ جسرٌ خشبيٌّ نحيف، يُشبِهُ سُلَّماً يرتفعُ في الفضاءِ بزاويةِ مَيْلٍ معتدلة، يقودُ رويداً رويداً إلى قمّةِ جَبَلٍ عالٍ في وسط الغابة. الجسرُ عبارةٌ عن حَبْلَيْنِ مَتِيْنَيْنِ مُتَوَازِيين بينهما مسافةُ متر، توسقهما سلسلة ألواحٍ سميكةٌ قويَّة، بمثابَةِ دَرَج. في طرفَي كلِّ درجة يرتكزُ عمودان خشبيّان يرتفعان حتّى الخاصرة، يمكنُ الاتكاءُ عليهما باليدين أثناء الصعود.
يرتفعُ هذا الجسرُ البدائي مُحاذياً جذوعَ أشجارِ الغابةِ الباسقة، ثمّ يتوغَّلُ في الغلافِ الجوِّي باتجاهِ قمَّةِ الجبلِ المواجهِ حيثُ ينغرسُ الطرفُ الآخرُ لِلجسرِ في فجوةٍ عميقة. بدأتُ الصعودَ متكئاً بِقبضتَي يَدَيَّ على الأعمدةِ القريبةِ من خاصرتي، ومصوِّبَاً قَدمَيَّ على ألواح الدرج التي كانت تتأرجحُ في الفضاء مع كلِّ خطوة. لم أشعرْ في حياتي بانقباضٍ أكثر بعد أوَّلِ خطوة على هذا الجسر المترنِّحِ في الفضاء. زاد هلعي بشكلٍ لا يطاق وأنا أشعرُ الجسر يهتزُّ تحت رجلي مع كلِّ خطوة. فكَّرْتُ بالتوقُّفِ والعودةِ إلى الخلف. مستحيل. لا أستطيعُ مجرَّدَ الاستدارة. يلزمُ مواصلةُ السيرِ بانتظامٍ وهدوء، والحفاظ على مسافة خطوات مع رجلٍ يسبقني.
بدأتُ أتحرَّرُ قليلاً من الخوفِ والشعورِ بالدوار. بدأنا السيرَ بعد ذلك على جسرٍ ثانٍ هبوطًا هذه المرّة، نحو كهف قاع جبلٍ ثانٍ يواجهنا. كان الكهفُ في بدئه، دهاليز وأغوار واسعة. ثمّ فجواتٍ مُشَعْبَكَة تتخلَّلُها ممراتٌ ضيّقةٌ. لِدخولها، يجب الانحناءُ وعَطْوَرَةُ الجسدِ أو حَشْرُهُ بالكاد. عند كلِّ حركة، يلزم التفاوضُ بين الجسدِ والحُفَرِ الصخريَّة، بين المصباحِ اليدويِّ والفكّ، بين الفكِّ والمعدة. يلزمُ ترويضُ المفاصل بين النتوءات الصخريَّةِ وتداخلاتها، بين الأجرافِ والمياهِ الجوفيّة. يلزم أن يصير الإنسان مطاطيّاً، هوائياً، شنجميّاً بِجَسَدٍ غضروفيٍّ لَيِّن.
الكهفُ مملكةُ خفافيش وكائنات ظلاميّة مجهولة متنوِّعَة تقبعُ في الجُحُور والأوكار، تلتصقُ بِجُدْران الأقبيةِ الغائرة، تحوّمُ ببطء في تلابيب أمعاء الكرة الأرضية. فيه ما فيه.
فيه رأيتُ، فصائلَ مسالمةً من ثعابين وحيّاتٍ بيضاء، لعلَّها مصابةٌ بالبهاق. لم أرَ مثيلَها في حياتي من قبل.
بفضلِ رحلة الصعودِ إلى الجَبلِ شعرتُ أنني أتلاين عند الهبوط والالتواء في تضاريس الكهف. فقدتُ انقباضي بفضلِ هاتين الرحلتين المتكاملتين معاً. صدق من قال: كلَّمَا نصعدُ الأعالي، كُلَّمَا نكتشفُ عمقَ الذات!