ذبائح بين كل غادٍ ورائح
لم يصل خيالُنا، حتى في أسوأ كوابيسنا، إلى هذه الضروب من العذاب الجحيمي، كالتحريق والصلب ودق المسامير في الرؤوس والأيدي والآذان. حتى جهنم تبدو أرحم بكثير مما تجري وقائعه المروِّعة في سورية والعراق اليوم. وهؤلاء الأزارقة الجدد لن تكون خاتمتهم إلا كخاتمة الأزارقة القدامى، أي الاندثار المكلل بالقبائح واللعنات. لكن الأزارقة، وإن اندثروا في الماضي، إلا أن نسلهم ما برح يعود، الفترة بعد الفترة، لينشر الخراب والنقيع. وغير بعيد عنا أثر المدرسة الديوبندية في الهند، ومقالات سيد قطب وحزب التحرير الإسلامي، وقبلهما الحركة الوهابية، وصولًا إلى كهوف تورا بورا وأزقة قندهار، وكلها ترسم اليوم، لا جحيم دانتي الذي تخيله هذا الشاعر ذو الخيال الجامح، بل جحيمًا حقيقيًا برعت قصص الممخرقين في نسج حكاياته المفزعة.
كنا نقرأ حكايات التعذيب في التاريخ العربي، فلا تستثير فينا إلا القليل من الغثيان، لأن ثمّة حاجزًا زمنيًا يفصلنا عن الألم الإنساني الذي تثيره هذه الوقائع، لو أنها حدثت اليوم. كانت مجرد حكايات من التاريخ، مضت وانتهت، ولم يبقَ منها إلا ما هو مسطور في الكتب القديمة المعفّرة بالغبار. هكذا كنا نعتقد. لكن، يا للأسى، اكتشفنا أن هناك رباطًا وثيقًا يشد هؤلاء الذين يمتلكون، اليوم، البلاد، ويسترقون العباد إلى أسلافهم الذين جعلوا، بفنون ظلمهم التي لا تنتهي، كلمة الاستبداد لطيفة الوقع على أحاسيسنا، قياسًا على فظائع الحرق والتقتيل والتنكيل. لنقرأ من سجلات الألم ما يلي: في السنة 832 هجرية، جهز الملك الأشرف برسباي عسكرًا مملوكيًا لاستعادة مدينة الرُها فاستعادها. وعلى الفور، لم يترك العسكر قبيحًا إلا أتوه، ولا أمرًا مستبشعًا إلا فعلوه، فقتلوا من وجدوه في المدينة. ثم أخذ المماليك النساء، وفجروا بهن، فكانت الواحدة منهن، إذا قامت من تحت الواحد منهم، مضت هي وطفلها إلى موضع فيه تبن فتختبئ فيه، فاجتمع بذلك الموضع نحو ثمانين امرأة مع أطفالهن، فأضرم المماليك النار عليهن، فاشتعل التبن واحترقن جميعًا (عبود الشالجي، موسوعة العذاب، بيروت: الدار العربية للموسوعات، 1999). وفي السنة 928، توفي في القاهرة خاير بك الجركسي الذي كان كافلًا للسلطان سليم العثماني في حلب. وهذا الكافل أُحضر أمامه شخص بتهمة الفساد فأمر به، فنُشر بدنه بالمنشار، فلقبه الحلبيون "النشّار". وحج أحمد باشا الجزار في إحدى السنين، فلما عاد، بلغه أن بعض مماليكه اتُهم بنساء من حرمه. فأمر الجزار بنار فأُججت، وأمر الخصيان فأحضروا نساءه، فكان يقبض على الواحدة منهن، ويطرحها في النار على وجهها، ويدوس على ظهرها ويضغط على رأسها، حتى يتم شيُّها في النار وتهلك، فيُحضِر غيرها. وهكذا قتل سبعًا وثلاثين امرأة (محمد كرد علي، خطط الشام). إنها حكاية هاذية وذات دلالة في شأن نسائه... لقد كان رجلًا حقًا!
إن إحراق الطيار الأردني بالطريقة المروِّعة إياها، وقطع رؤوس الأجانب، وجز الهامات عن الأعناق، وهو ما يحدث يوميًا في فيافي سورية والعراق، يقع مثله في جزيرة العرب أيضًا، لكن بوتائر أقل وبصورة غير معلنة؛ فقد شاهدنا في يناير/كانون الثاني 2015 مشهدًا يصور قطع رأس إحدى النساء المتهمة بالحب "المحرم". أَليس ذلك شوطًا جديدًا في سلسلة واحدة من القتل، ممتدة من زمن الخوارج حتى اليوم؟ إنها هكذا حقًا، مع الاختلاف في الدرجة لا في النوع. ولعل من النتائج غير المدروسة حتى الآن، أن صعود السلفيات القاتلة أدى إلى ازدياد كراهية التدين، وإلى التحول نحو الاستهزاء بالدين وبالقيم الدينية وبالتاريخ الديني معًا، حتى في جامعة الأزهر. فتبصروا!