ذرائع إضافيّة للشقاء
هكذا طرحت السؤال غير البريء على نفسي، وانأ أقود سيارتي صباحاً، في طريقي إلى العمل، وكنت أدندن مع فيروز واحدة من أكثر أغانيها شعبية وروعة، بعناصرها كافة، من كلمةٍ ذكية لمّاحة، ولحن ثري صاخبٍ يشبه انهمار شلال سريع، وصوت نضر فتيّ أخّاذ، كفيل بإيصال مشاعرنا إلى النجوم فعلياً. إنه سؤال كبير، يستحق تأملاً عميقاً: مَن منّا يمتلك الصلابة ورباطة الجأش والحيادية والواقعية، ليتمكن من كبح جماح جيشانه العاطفي، وفورانه الوجداني، وتحليق روحه، وانتعاش مخيّلته، وربما انهمار دموعه، إثر نوبة أسى واشتياق، عند الاستماع إلى كلمات رائعة فيروز، للأخوين رحباني (يا دارة دوري فينا)، وهي تحرّض الحبيب، بمكر وشقاوة وخفر، على مراوغة درب الأعمار، والاختباء منه، لكي يسهو عنهما، ويغض النظر عن انفلات العاشقين الصغيرين من قبضة الزمن، ثم تقدم له حلولاً سحريةً، لا تخلو من براءة وابتكار، يواجهان بهما أسئلةً، من نوع أين كنتما، ولماذا لم تكبرا مثلنا.
وفي بلوغ خارق لذروة شعرية وجمالية، يأتي الجواب العبقري البسيط والحاسم (بنقلُّن نسينا واللي نادى الناس تا يكبرو الناس راح ونسي ينادينا). مَن له القدرة على التماسك، في مواجهة كلمات بسيطة، ضاجّة بالحب والحياة والتمجيد البديع للنسيان، وسيلة مُثلى للهرب؟
مَن يملك، في السياق الجمالي نفسه، مجادلة وديع الصافي، حين يتعشّق ويتغزّل متحسّراً ومتأسياً، ومغموراً بالحنين لعمر (الولدنة). ردد هذا المعنى، بصوته العتيق العميق الجميل، في اسكتش غنائي راقص، فائق الجمال، افتتحه بأغنية (شاب الهوى وشبنا)، وقد أبدع الرحابنة والصافي، في تلك اللوحة، من حيث الصوت، وكذلك بالكلمة الرشيقة خفيفة الظل، ذات الإيحاء الأنيق، غير المبتذل والألحان المصاحبة والاستعراض الراقص الذي يؤديه كهول متصابون، يتذمرون في حوارية غنائية طريفة، من أوجاع الشيخوخة ومتاعبها وأحزانها، ويؤكدون، باستسلام، أن (العمر إلو حق) وسرعان ما يتنصّلون، في الحوارية نفسها، من التصريحات غير المسؤولة، ويتبارون في ادّعاء مظاهر الفتوّة والشباب، ابتداءً من تأكيد القدرة على الرقص، في حلقة الدبكة ثلاث ساعات، والتهام ثلاثة صحون على التوالي، وحمل الأثقال وصيد الحساسين.
تنجم تلك الافتراءات والخفّة التي تعتري أرواحهم، حال إطلالة سرب من صبايا جميلات، ليختتم وديع الصافي المشهد مغنياً (يا ست عشر سني يا عمر الولدني يا مين يرجّعني صغير وياخد مالك يا دني وأرجع أكبر على الهدا ويا با أوف).
وتظل أغنية لا تقل خطورة، تختصر الحكاية كلها بهذا المقطع الذكي البليغ، المعبّر عن ثقافة شعبيةٍ منحازة للحياة وجمالياتها الكثيرة: (شبابي قوموا العبو والموت ما عنو، والعمر مثل القمر ما ينشبع منو)، تلمس أغنيات كهذه أرواحنا المصابة بالشغف إلى تفاصيل الحياة، والأسى على ما فات منها، والتوق إلى ما تخفيه في جعبتها، من وعود، تلمسها بسهولة ويسر، لأنها تختزل هواجسنا، وتعبّر عنها فنياً وإبداعياً، فتبدو أقل وطأة وأكثر رومانسية، وتمنح الواحد منّا فرصة التخفّف منها بحجة الدندنة!
نحاول تقبّل حقيقة مرور العمر السريع الخاطف، من باب لا مفر، وهو يمضي بنا جميعاً، من دون تسجيل حالة نجاةٍ واحدة، كما اقترحت الأغنية الفيروزية العتيقة، ومن دون احتمالية قطع تذكرة عودة ثانية، حتى لو كان ذلك مقابل الدنيا بأسرها، كما تمنى الصافي لتلك الرحلة الذاهبة في اتجاه واحد، لا رجعة فيه. صحيح أن الفكرة موحشة من حيث المبدأ، غير أن طرائق التعاطي معها تختلف بحسب اختلاف الحساسيات. هناك مَن يبالغ في الرفض والتفجّع، ومَن يُعَقْلِن الفكرة، ويخضعها لمنطق علمي، واقعي وبارد ومريح. هؤلاء العقلاء لا يطرحون أسئلة، غبية بائسة، عن ماهية الوجود والأشياء، بل يتركون هذا الترف لمجانين مصابين بلوثة الإبداع، باحثين، دوماً، عن ذرائع إضافية للشقاء!