09 نوفمبر 2024
ذكرى 15 أيار.. كفى خطابة
(1)
حين تقترن محطةٌ تاريخيةٌ فاصلةٌ في حياة شعبٍ ما بمأساةٍ وكارثة، فمن الطبيعي التوقف عندها، واستذكارها، من أجل ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، كما هي محطة النكبة الفلسطينية التي تحل ذكراها الحادية والسبعون هذه الأيام. ومنذ السنة الأولى على وقوع النكبة، وعلى مدار سبعة عقود، فقد دأبت القوى السياسية والاجتماعية على إحياء الذكرى و"الاحتفال" بها. وكانت قوى عربية عديدة تشارك في هذه المناسبة، إلى أن أخذت هذه المشاركة تتقلص شيئا فشيئا، نظرا للمستجدّات التي طرأت على الواقع العربي، وحلّت فيها أولويات محلية على الأولوية القومية، وكذلك بفعل المستجدّات التي طرأت على الواقع الفلسطيني، حيث باتت هناك سلطة تقوم مقام كيان سياسيٍّ مسلوب السيادة والولاية، ويحظى، في الوقت نفسه، باعترافٍ دولي واسع، مقرها في رام الله، وذلك قبل أن تنشأ سلطة ثانية موازية في غزة.
وما زالت الحاجة قائمة، وما زال الواجب يُملي استذكار المناسبة، هنا وهناك، فحين يجري تنظيم مسيرةٍ وعقد ندواتٍ في بلد كالسويد أو المملكة المتحدة، أو في الأراضي المحتلة في 1948، فإن ذلك يعتبر بمنزلة نشاط سياسي وإعلامي، في مواجهة اللوبي الصهيوني، وأية قوى محلية تناصر الاحتلال والاستيطان والتمييز، غير أن المواظبة على إحياء هذه المناسبة في مخيمات لبنان، أو في الضفة الغربية، بالطريقة ذاتها قد تؤدي إلى نتائج تخالف المنشود، فالمنصّات الخطابية، وترديد الأناشيد، ورفع الأعلام، يجعل المتابعين، بمن فيهم الفلسطينيون، يستشعرون أن هذا الحدث يتكرر بالوتيرة نفسها، ويستنسخ احتفالات سابقة ويعيدها. وذلك، بداهةً لا يثير التفاؤل، ولا الحميّة، كما يحسب المحتفلون. وكل ما تشيعه هذه الاحتفالات هو توطين الانطباع بأن النزعة الخطابية تظل تفعل فعلها، وتريح أصحابها من عناء التفكير بأمر آخر أجدى، وأوفر مردودية من حفل خطابي، بمكبرات صوت، يقام عاما تلو عام (وقد يشكو منه من هم في الجوار)، وتواكبه احتفالات أخرى مشابهة في ذكرى هزيمة حزيران 1967أو انطلاقة الثورة الفلسطينية، أو استحضار مجازر دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، أو ذكرى معركة الكرامة، وسوى ذلك من مناسباتٍ هي بلا شك شديدة الأهمية، لكن الدأب على استحضارها بالخطابة وحدها يثير التأمل، بل يحمل على الأسى، حيث يجري تفريغ الطاقة العاطفية بالخطابات. وفي أحسن الأحوال، بمسيراتٍ تنتهي بخطاباتٍ يبدو فيها الخطباء على غير هيئآتهم المعتادة التي يظهرون بها لدى الحوار أو الاختلاط معهم، إذ يتحوّلون على المنصة ووراء المايكروفون إلى كتلةٍ انفعالية صاخبة، لا تثير رأيا، ولا تدعو إلى نقاش، ولا تحاور الحضور في شيء.
(2)
يشك المرء في أن ملايين الفلسطينيين في أصقاع الأرض يتابعون فعاليات ذكرى يوم النكبة
(احتسب عددهم أخيرا الخبير الاقتصادي والإداري، طلال أبو غزالة، بـ 25 مليون نسمة، وبما يناهز ضعف العدد التقريبي الرائج في الإحصائيات)، ليس لأن المناسبة لا تعنيهم، ولكن لأن انشغالاتٍ ضاغطة تثقل عليهم في أمكنة اللجوء والإقامة. ولأن الفعاليات تقتصر تقريبا على الخطابة التي لم يعد لها من تأثير يذكر في الزمن الرقمي، ومع انتشار "السوشيال ميديا"، ومع تدفق أخبار التوترات بالصوت والصورة على مدار الساعة، من مواضع عدة في العالم، أغلبها من العالم العربي أو تتعلق به.
وثمة سبب آخر لا يقل أهمية يُضعف من صلة فلسطينيين كثر بهذه المناسبة، وما يشاكلها، ويتصل بما طرأ على الهوية الوطنية من تصديعٍ وتشتيت في ربع القرن الزمني الأخير، إذ بدا لاجئو العام 48، سواء كانوا في المخيمات أو في بلدان مثل دول الخليج وأميركا وكندا وأستراليا، وكأن الحلول السياسية المتداولة تقفز عنهم، وأنه بات هناك ما يشبه نشوء شعب الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل بقية شعب فلسطين. من دون أن يعني ذلك المطالبة بتحرير من النهر إلى البحر، لا تتوفر أسسه ومرتكزاته الواقعية أو الكامنة، بل يدلّ الأمر على خطل تجزئة قضية الشعب باسم الحلول الواقعية، أو المرحلية، وعلى مدى الانعكاس السلبي الفادح لهذه الرؤى السياسية على وحدة الشعب والقضية. بينما الصحيح أنه يتعين أن لا تقود الحلول المرحلية إلى القفز عن القرارات الدولية ذات الصلة باقتلاع الشعب من أرض آبائه وأجداده.
وواقع الحال أن التقصير يقع على السلطة الوطنية وعلى منظمة التحرير، وعلى حركة حماس، كما يقع على الكتل الفلسطينية في المنافي والشتات. وقد دأب الفلسطينيون على نقد قياداتهم والشكوى منها مُرّ الشكوى، وإراحة الضمير وإبراء الذمة، باللجوء إلى هذه الطريقة التعويضية في تحديد المسؤوليات. على الرغم من إدراك كثيرين أن ما بيد السلطة من أدوات وإمكانات يظل محدودا، نظرا لجسامة التحديات، وللتأثير الهائل للعالم الخارجي على السياسات المتبعة. وأن القضية تمضي على طريق الانتصار بتكاتف أكبر طاقاتٍ ممكنة.
(3)
كان من الواجب أن تتحول ذكرى النكبة هذا العام (2019) إلى مناسبةٍ لشحذ الهمم من أجل وقفة متحدة أمام التحدّي الماثل، وهو صفقة القرن، إذ بمثل هذا الاهتمام يتم إيقاظ المدارك
وتصويب الأنظار على هذه "الحلقة المركزية" التي تتكثف فيها المخاطر الآنية والداهمة. فاستحضار البدايات، على أهميته القصوى، لا يسوغ التقليل من تحدّيات المرحلة الراهنة، كما لا يبرّر الانشغال الزائد بحادثٍ عرضي، مثل كتابٍ أعدته طالبات مدرسة باسم "قدوتنا رئيسنا"، وقامت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية بتلميعه، فالتعصب التنظيمي قائم لدى كل الفصائل، والتعظيم من شأن القادة جارٍ على قدم وساق، ولا جديد في الأمر.
وللحق، كانت مشاركة غزة بتجديد مسيرة العودة يوم 15 مايو/ أيار الحالي، مميزة. إنها مسيرة لاجئي غزة الداعين إلى العودة إلى ديارهم، فالاحتفال الإيجابي يقترن بتحرّك ما، بإنجازٍ ما ولو صغيرا، يكسر الصورة النمطية الرتيبة عن الاحتفالات، والبرهنة على أن الفلسطينيين شعب حي، يبدع في كل شيء، بما في ذلك احتفالاته الوطنية. وكما هو الحال مع الاحتفال السياسي الذي نظمه الطلبة الفلسطينيون في جامعة تل أبيب، فرع قرية الشيخ مونس شمال يافا التي دمرتها العصابات الصهيونية في 1948. وحيث رمى الاحتفال إلى تبصير الطلبة بالنكبة التي ابتدأت من ذلك المكان وغيره، ودعوتهم زملاءهم إلى التمسّك بهويتهم الوطنية والعربية، ورفض الأسرلة، وشقّ الطريق نحو العودة.
حين تقترن محطةٌ تاريخيةٌ فاصلةٌ في حياة شعبٍ ما بمأساةٍ وكارثة، فمن الطبيعي التوقف عندها، واستذكارها، من أجل ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، كما هي محطة النكبة الفلسطينية التي تحل ذكراها الحادية والسبعون هذه الأيام. ومنذ السنة الأولى على وقوع النكبة، وعلى مدار سبعة عقود، فقد دأبت القوى السياسية والاجتماعية على إحياء الذكرى و"الاحتفال" بها. وكانت قوى عربية عديدة تشارك في هذه المناسبة، إلى أن أخذت هذه المشاركة تتقلص شيئا فشيئا، نظرا للمستجدّات التي طرأت على الواقع العربي، وحلّت فيها أولويات محلية على الأولوية القومية، وكذلك بفعل المستجدّات التي طرأت على الواقع الفلسطيني، حيث باتت هناك سلطة تقوم مقام كيان سياسيٍّ مسلوب السيادة والولاية، ويحظى، في الوقت نفسه، باعترافٍ دولي واسع، مقرها في رام الله، وذلك قبل أن تنشأ سلطة ثانية موازية في غزة.
وما زالت الحاجة قائمة، وما زال الواجب يُملي استذكار المناسبة، هنا وهناك، فحين يجري تنظيم مسيرةٍ وعقد ندواتٍ في بلد كالسويد أو المملكة المتحدة، أو في الأراضي المحتلة في 1948، فإن ذلك يعتبر بمنزلة نشاط سياسي وإعلامي، في مواجهة اللوبي الصهيوني، وأية قوى محلية تناصر الاحتلال والاستيطان والتمييز، غير أن المواظبة على إحياء هذه المناسبة في مخيمات لبنان، أو في الضفة الغربية، بالطريقة ذاتها قد تؤدي إلى نتائج تخالف المنشود، فالمنصّات الخطابية، وترديد الأناشيد، ورفع الأعلام، يجعل المتابعين، بمن فيهم الفلسطينيون، يستشعرون أن هذا الحدث يتكرر بالوتيرة نفسها، ويستنسخ احتفالات سابقة ويعيدها. وذلك، بداهةً لا يثير التفاؤل، ولا الحميّة، كما يحسب المحتفلون. وكل ما تشيعه هذه الاحتفالات هو توطين الانطباع بأن النزعة الخطابية تظل تفعل فعلها، وتريح أصحابها من عناء التفكير بأمر آخر أجدى، وأوفر مردودية من حفل خطابي، بمكبرات صوت، يقام عاما تلو عام (وقد يشكو منه من هم في الجوار)، وتواكبه احتفالات أخرى مشابهة في ذكرى هزيمة حزيران 1967أو انطلاقة الثورة الفلسطينية، أو استحضار مجازر دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، أو ذكرى معركة الكرامة، وسوى ذلك من مناسباتٍ هي بلا شك شديدة الأهمية، لكن الدأب على استحضارها بالخطابة وحدها يثير التأمل، بل يحمل على الأسى، حيث يجري تفريغ الطاقة العاطفية بالخطابات. وفي أحسن الأحوال، بمسيراتٍ تنتهي بخطاباتٍ يبدو فيها الخطباء على غير هيئآتهم المعتادة التي يظهرون بها لدى الحوار أو الاختلاط معهم، إذ يتحوّلون على المنصة ووراء المايكروفون إلى كتلةٍ انفعالية صاخبة، لا تثير رأيا، ولا تدعو إلى نقاش، ولا تحاور الحضور في شيء.
(2)
يشك المرء في أن ملايين الفلسطينيين في أصقاع الأرض يتابعون فعاليات ذكرى يوم النكبة
وثمة سبب آخر لا يقل أهمية يُضعف من صلة فلسطينيين كثر بهذه المناسبة، وما يشاكلها، ويتصل بما طرأ على الهوية الوطنية من تصديعٍ وتشتيت في ربع القرن الزمني الأخير، إذ بدا لاجئو العام 48، سواء كانوا في المخيمات أو في بلدان مثل دول الخليج وأميركا وكندا وأستراليا، وكأن الحلول السياسية المتداولة تقفز عنهم، وأنه بات هناك ما يشبه نشوء شعب الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل بقية شعب فلسطين. من دون أن يعني ذلك المطالبة بتحرير من النهر إلى البحر، لا تتوفر أسسه ومرتكزاته الواقعية أو الكامنة، بل يدلّ الأمر على خطل تجزئة قضية الشعب باسم الحلول الواقعية، أو المرحلية، وعلى مدى الانعكاس السلبي الفادح لهذه الرؤى السياسية على وحدة الشعب والقضية. بينما الصحيح أنه يتعين أن لا تقود الحلول المرحلية إلى القفز عن القرارات الدولية ذات الصلة باقتلاع الشعب من أرض آبائه وأجداده.
وواقع الحال أن التقصير يقع على السلطة الوطنية وعلى منظمة التحرير، وعلى حركة حماس، كما يقع على الكتل الفلسطينية في المنافي والشتات. وقد دأب الفلسطينيون على نقد قياداتهم والشكوى منها مُرّ الشكوى، وإراحة الضمير وإبراء الذمة، باللجوء إلى هذه الطريقة التعويضية في تحديد المسؤوليات. على الرغم من إدراك كثيرين أن ما بيد السلطة من أدوات وإمكانات يظل محدودا، نظرا لجسامة التحديات، وللتأثير الهائل للعالم الخارجي على السياسات المتبعة. وأن القضية تمضي على طريق الانتصار بتكاتف أكبر طاقاتٍ ممكنة.
(3)
كان من الواجب أن تتحول ذكرى النكبة هذا العام (2019) إلى مناسبةٍ لشحذ الهمم من أجل وقفة متحدة أمام التحدّي الماثل، وهو صفقة القرن، إذ بمثل هذا الاهتمام يتم إيقاظ المدارك
وللحق، كانت مشاركة غزة بتجديد مسيرة العودة يوم 15 مايو/ أيار الحالي، مميزة. إنها مسيرة لاجئي غزة الداعين إلى العودة إلى ديارهم، فالاحتفال الإيجابي يقترن بتحرّك ما، بإنجازٍ ما ولو صغيرا، يكسر الصورة النمطية الرتيبة عن الاحتفالات، والبرهنة على أن الفلسطينيين شعب حي، يبدع في كل شيء، بما في ذلك احتفالاته الوطنية. وكما هو الحال مع الاحتفال السياسي الذي نظمه الطلبة الفلسطينيون في جامعة تل أبيب، فرع قرية الشيخ مونس شمال يافا التي دمرتها العصابات الصهيونية في 1948. وحيث رمى الاحتفال إلى تبصير الطلبة بالنكبة التي ابتدأت من ذلك المكان وغيره، ودعوتهم زملاءهم إلى التمسّك بهويتهم الوطنية والعربية، ورفض الأسرلة، وشقّ الطريق نحو العودة.