لكن هذه البهجة تقلصت كثيراً بضياع المفاجأة، منذ اعتمدت دار الإفتاء على الحسابات الفلكية لمعرفة بدايات الشهر، فأصبح الناس غير مهتمين بمعلومة المفتي المعروفة سلفاً. ولم يبق من مظاهر هذا الاحتفال إلا إقبال الأطفال ليلة الرؤية على تعليق الزينات الملونة في الشوارع خاصة في الأرياف والأحياء الشعبية، وبعض احتفالات الطرق الصوفية.
الاحتفالات الأولى
يزعم المصريون أنهم أول من احتفلوا رسمياً برؤية الهلال في آخر شهر رمضان، وذلك حين خرج قاضي القضاة عبد الله بن لهيعة سنة 155 هجرية، إلى جبل المقطم لاستطلاع الهلال في موكبٍ رسمي ضم رجال الدولة والأعيان وصحبهم بعض أبناء الشعب، ومنذ ذلك الحين وهذا الحدث بات احتفالاً شعبياً ترعاه الدولة.
في حين أسهمت الدولة الفاطمية، كما هي عادتها، في دعم الأجواء الاحتفالية، وبفضل الطرق الصوفية استمر الاحتفال طوال الأزمان المتعاقبة، فقد زادوا عليه "موكب الرؤية" الذي يضم دراويش معمّمين، وأطفالاً مبتهجين، وخيّالة، وجمّالين، وأعلاماً كبيرة خضراء، ودفوفاً، وأناشيد دينية، وراقصي مولوية.
وكانت الميول الصوفية للدولة العثمانية باعثاً على أن يصل الاحتفال الرسمي بليلة الرؤية إلى أعلى مستوياته، حيث يجتمع قضاة المذاهب الأربعة، وفقهاؤها، والمحتسب، والأعيان والدراويش، ويتجهون جميعاً في موكبٍ إلى جبل المقطم؛ فإذا ثبتت الرؤية يعود المحتسب إلى بيته في موكب شعبي حافل، في ليلة مضيئة مشهودة، وتستمر الإضاءة طوال ليالي الشهر لدرجة أن وصفها تقي الدين المقريزي (1364م - 1442م) بأنها: ""ليالي الوقود"، لكثرة قناديلها وزيوتها.
بدأ رصد هلال رمضان من دكة بنيت خصيصاً لهذا الغرض، سمّوها "دكة القضاة"، وتطور الأمر في أيام الفاطميين الذين أقاموا منارة عالية بمسجد بدر الجمالي بالمقطم لاستطلاع الهلال الوليد.
وفي أيام العثمانيين انتقل القضاة من منارة بدر الجمالي إلى منارة مدرسة المنصور قلاوون العالية. وكان الاحتفال آنذاك يقام بعد ثبوت الرؤية في المحكمة الصالحية، في أيام الخديوي عباس حلمي الثاني كان الاحتفال بالرؤية يقام في المحكمة الشرعية بباب الخلق، قبل أن يتحول إلى دار الإفتاء بالدرّاسة حالياً.
ولا تختلف عادة المصريين قديماً عما آل إليه الأمر لاحقاً، فقد كان إعلان المحتسب بداية شهر رمضان من اليوم التالي، إيذاناً للناس بالبدء في الاحتفال عبر تعليق الزينات، وإضاءة الفوانيس، وإطلاق الزغاريد، ثم ينطلق الرجال لأول صلاة تراويح في تلك الليلة.
ابن إياس والجبرتي
أما عن بعض صور الاحتفال بليلة الرؤية في التاريخ، فإن ابن إياس (1448 - 1523م) يصف ليلة الرؤية في أيامه فيقول في كتابه "بدائع الزهور": "في ليلة رؤية الهلال حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب. فلما ثبت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب الزيني بركات من هناك فتلقّاه الفوانيس والمنجنيق والمشاعل والشموع الموقدة، فلم يحص ذلك لكثرته، ووقدوا له الشموع على الدكاكين وعلقوا له التنانير والأحمال الموقدة بالقناديل من الأشاطين إلى سوق مرجوش إلى الخشابية إلى سويقة اللبن إلى عند بيته".
في حين يقول الجبرتي (1756 – 1825) في "عجائب الآثار": "في ليلة الرؤية كانت مصر تتزين بآلاف القناديل والمصابيح في تلك الليلة، ويقوم كل شخص بتزيين واجهة حانوته وينتظر كل شخص مع خلانه احتفال موكب المحتسب، فكانت القناديل تضاء في الأسواق والشوارع. وقد عاصر الجبرتي الاحتلال الفرنسي لمصر.
وأشار إلى دعم الفرنسيين لتلك الاحتفالات أول الأمر فيقول: "كان الناس يخرجون في موكب يضم شيوخ الحرف وتطلق المدافع والصواريخ من القلعة والأزبكية". وهي بالطبع مدافع وصواريخ فرنسية! لكن بعد ذلك كان عنف الفرنسيين وبطشهم بالمصريين أثناء ثورتهم داعياً إلى أن يلتزم الناس بيوتهم وألا يقيموا احتفالاً خوفاً من بطش العسكر الفرنسي مثلما حدث في سنة 1802.