منذ ثلاث سنوات وجاك لانغ، الشخصية الفرنسية الثقافية الأبرز، يرأس معهد العالم العربي. ويبدو أن إنجازاته في تقديم الحلول واجتراحها لحل المشكلات المزمنة للمعهد، تلقى نجاحًا. فطريقته الخاصّة بالنظر إلى الأمور من زاوية مختلفة ومنفتحة أدت فعلًا إلى ابتكار وصفات ناجعة، سواءٌ في ما يخص التمويل أو المعارض المقامة في المعهد
* منذ ثلاث سنوات وأنت ترأس معهد العالم العربي في باريس، الذي كان يعرف، قبل تحملك المسؤولية، وضعية صعبة للغاية، فما الذي فعلت من أجل إنقاذ المَركب، وتخليصه من المشاكل العالقة والمتراكمة؟
يجب على المرء أن يكون، في آن واحد، متمتعًا بمنهجيّة ومتحمّساً. ثم يجب متابعة فكرة واضحة، وإرساء جسر حقيقي بين العالَم العربي والعوالم الأخرى. لقد حاولتُ استعادة الثقة، من جديد، واستعادة الإيمان والحماس على كل الأصعدة، ومنها تدريس اللغة العربية، حيث قمنا بتعزيز تدريسها في المعهد، وأيضًا الأحداث الكبرى التي تترك أثراً في المخيال، وكذا تنظيم ندوات ولقاءات ونقاشات ومنتديات. هذا بعضُ ما أنجزناه. ثم إني أعتبر أن شخصيتي أدّت دوراً ما، فأنا نسبيًا، شخصيةٌ معروفة في العالَم العربي ولديّ أصدقاء عديدون، في كل مكان. وحتى في فرنسا، ذاتها، أحظى بدعم كبير. ثم إننا حين نشاءُ نستطيعُ.
وضعت أمامي هدف تغيير الأسلوب القديم الذي أدى إلى الأزمة التي شهدها المعهد منذ عدة أعوام، ونجحت في الوصول إلى الهدف.
* أي هل كانت الأزمة، في نظرك، اقتصادية، أي مالية محضة؟
كانت، في جزء ما، اقتصادية، ولكن كانت أيضًا أزمة تخييل. أزمة حكامة، أزمة كهولة وأزمة تعب وافتقاد المرونة، ولهذا كان من الضروري منحُ ألوان ومنح حياة ومنح الأمل وخلق الحركة، من جديد. أي التحرك في جميع الاتجاهات، وهذا ما كان.
اقــرأ أيضاً
* تولَّد لدى الكثيرين، خلال سنوات، انطباعٌ بأن فرنسا هي وحدها من يتحمل مسؤولية معهد العالم العربي، بينما البلدان العربية لا تلعب دورها ولا تحترم تعهّداتها ووعودها. ما مدى صحة ذلك؟
إنها قصة طويلة. لكننا سنحتفل في العام القادم بالذكرى الثلاثين لانتقال معهد العالَم العربي إلى مقره الحالي على ضفاف نهر السين، الذي افتتحه الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، سنة 1987. لقد مرّ المعهد بعدة مراحل ولحظات منذ تأسيسه. إذ منذ البداية كان يتوجب على البلدان العربية تقديم مساهمة مالية تعادل، تقريبًا، مساهمة الدولة الفرنسية. ثم حدث أن بعض البلدان العربية لم تَفِ بالتزاماتها، أو أنها دفعت، بشكل متأخر، مستحقاتها، وهو ما جعل المعهد يعرف، في بعض الأحيان، أزمات مالية خطيرة. فالميزانية كانت ترتكز على المساهمَتَين، الفرنسية والعربية، ولكن كانت تنقص، في نهاية السنة، الكثيرُ من الأموال.
إذن عرف المعهد أزمات مالية كثيرة، ثم إن بعض مسؤولي المعهد لم يُديروا الأمر بما يكفي من الصرامة. ربما أنفقوا كثيرًا، والحقيقة أني لا أعرف على وجه التحديد ماذا وقع. باختصار، حين تحملتُ المسؤولية، كان المعهد لا يزال مُكبَّلًا ببعض الديون والقروض. وأنا لا أستطيع تحمل الأمر. لا أتحمل العجز المالي ولا أتحمل القروض، إنْ في حياتي الشخصية أو في الحياة العمومية. وحين وصلتُ إلى المعهد اتخذتُ إجراءات اقتصادية، أي تقشف اقتصادي!، كما حاولتُ، بشكل خاص، أن أطْرُقَ أبواباً عديدة، من أجل تمويل الأحداث الكبيرة من خلال مساهمات إضافية. وأيضًا، عن طريق جذب جمهور كبير جدًا. وأعطيك، مثلًا، ما يتعلق الآن، بمعرض "حدائق الشرق"، فقد تمّ إطلاعي، أمس، على أرقام الزائرين، الذين وصلوا إلى 300 ألف زائر. الأمر واضحٌ، فأنت تعرفُ أن الدينامية تنتج الدينامية. وحين تحضُرُ هذه الدينامية يَحضُر، بالضرورة، رُعاة الثقافة والفنّ، كما يكون الجمهور على موعد.
* إذن فالمعهد تجاوَز الأزمة، وهو في وضعية مريحة؟ وفرنسا والعرب هل يؤديان مستحقاتهما المالية؟
نعم، لقد تجاوزنا الأزمة، ونحن في وضعية جيدة جدًا. أما في ما يخص المستحقات، فلا مستحقات، من الآن فصاعدًا. انتهى الأمر، وهو الحل الأفضل لسير عمل المعهد. فنحن لا نستطيع أن نظلّ مرهونين بمساهمات غير مضمونة. وأنا أتحدث، هنا، عن إسهامات البلدان العربية، أما فرنسا فهي وفيّة لتعهداتها المالية السنوية التي تدفعها بانتظام.
* إذن فلا مساهمات مالية عربية، الآن؟
لا يمكن أن نظل، دائمًا، في حالة تبعيَّة. ومن الأفضل أن نكونَ أحرارًا، حتى وإن لم نكن أغنياء كثيرًا. وفي ما يتعلق بكل حَدث وكل مَعْرض فأنا أحرص على الحصول على تمويل خاصّ. فمثلًا، المعرض الذي خُصّص عن الحج (إلى مكة المكرمة)، حصلنا على مساهمة من مكتبة الملك عبد العزيز بالرياض. لقد حصلنا منها على مساهمة مالية وأيضًا على مساهمة فكرية، عبر إعارتنا وثائق نادرة وتحفاً فنية لم تخرُجْ أبدًا، من قبلُ، من المملكة العربية السعودية. وأعطيك مثالًا ثانيًا، عن "المغرب المُعاصر"، فقد توجهت للقاء الملك المغربي، محمد السادس، الذي أكنّ له مودّة كبيرة، وتربطني به علاقات ثقة، فوعدني بالمساعدة، وهكذا ساعدتنا العديد من الشركات المغربية وقدمت لنا بعض الأموال لتمويل هذا المعرض.
اقــرأ أيضاً
* لقد جرى الحديثُ، خلال تنظيم هذا المعرض، عن دورٍ حميدٍ لكم في ترطيب الأجواء بين المغرب وفرنسا، من الناحية السياسية. هل يلعب المعهد، أحياناً، أدواراً سياسية؟
صحيحٌ. لقد تَزامَن معرض "المغرب المعاصر"، مع فتور عرفته العلاقات السياسية المغربية الفرنسية، بسبب قصة عبثية. وحين كنتُ بصدد الإعداد لهذا المعرض، تحدثتُ كثيرًا إلى الصحافة المغربية، وعبّرتُ، في معظم الأحيان، عن صداقة بلديْنا، التي لا يجب أن تتأثر بهذه القصة العبثية. ومن جهة أخرى، كلّف الملك محمد السادس شقيقته الكبرى للّا مريم بتدشين المعرض، جنباً إلى جنب، مع رئيس الجمهورية الفرنسية، فرانسوا هولاند. نعم، لقد لعب هذا المعرض دورًا في الحفاظ على الصداقة المغربية الفرنسية. وحتى ننتهي من سؤال المَعهد والأموال، ففيما يخصّ بعض المعارض، وأذكر لك "معرض أوزيريس"، فإن إحدى المؤسَّسات التي تقوم بتمويل أبحاث وحفريات الباحث والعالِم الفرنسي غوديو، الذي وضع تصميم المَعرض، ("أرتيفيا" التي تمول حفرياته في البحر)، قبلت تمويل استثمار مَعرض أوزيريس، واستفادت، لاحقًا، بقسم كبير من المداخيل. وبالنسبة لنا فالأمر جيّد، لأننا لا نخاطر بشيء. وبالنسبة لمَعرض "حدائق الشرق"، فقد حصلنا على بعض المساعدات، خاصة الماديّة، أي الطبيعية، مثلًا، بعض الجوانب من الحديقة التي توجد في الخارج، فقد منحنا بعض البستانيين الفرنسيين كما منحنا آخرون من صقلية وغيرها، كل الأزهار، خلال خمسة أشهر. لقد كانوا رائعين معنا. وهكذا يتوجب علينا أن نكون خلّاقين ومبتكرين.
* شهدت فرنسا، خلال الفترة الأخيرة، اعتداءات إرهابية دامية، فما هو الدور الذي اضطلع به معهد العالم العربي، لمعالجة التداعيات التي تأثرت بخلط الإسلام بالإرهاب؟
اتخذنا إجراءات كثيرة. أذكر من بينها تنظيمنا، قبل شهرين، اجتماعًا لأئمّة فرنسا، خلال يوم كامل، انتهى بنشر بيان أعلنوا من خلاله أنهم "جمهوريون" وأنهم "يساندون الجمهورية الفرنسية" وأنهم "مواطنون يرفضون كل أشكال الإرهاب" وأنهم ينحازون إلى "إسلام سلام وإسلام أنوار"، ثم إن المعهد نظَّم محاضرات كثيرة حول الموضوع نفسه. المعهد يلعب أيضًا دور التفسير والتنوير. ليس في الأمر بروباغاندا، ولكن لإظهار حقيقة أن الإسلامَ ليس هو القَتَلة.
اقــرأ أيضاً
* وهل امتدّ هذا الانفتاح من معهد العالم العربي إلى الضواحي والأحياء الشعبية؟
نعم، فمعهد العالم العربي أسَّسَ في منطقة "نور با دو كاليه" (Nord-Pas de Calais) في مدينة "توركوان" (Tourcoing) بيتاً لمعهد العالم العربي، وسنشهد تطورًا كبيرًا في قلب المدينة، من أجل تقديم النشاطات الباريسية نفسها لهذه المناطق الشعبية. كما أن لدينا علاقات وثيقة مع منطقة "سين- سان- دونيه" Seine-Saint-Denis (الضاحية الشعبية لباريس) وضاحية "سين-إي- مارن" Seine-et-Marne، الباريسية أيضًا. ويستقبل المعهد الكثير من التلاميذ والطلبة، ونحاول أن نساعد، في كل المناطق، المبادرات التي تتوجه إلى الشباب، بشكل خاص. ثم إن المعهد يقدّم نشاطات خاصة بالشباب، وقد أدخلتُ في البرمجة الموسيقية للمعهد أشكالًا موسيقية معاصرة، كالهيب هوب، مثلًا، أو الموسيقى الإلكترونية، وعرفت نجاحًا كبيرًا جدًا. ويجب علينا أن نستمرّ في هذا المجال.
* يرى كثيرٌ من المفكرين ومن رجال السياسة أن الثقافة يمكن أن تعالج الكثير من القضايا، وها نحن نرى كيف تم انتخاب ابن لسائق حافلة باكستاني (صادق خان) عمدةً لمدينة لندن مؤخرًا. ماذا عن الدور الذي يجب على باريس، عاصمة الثقافة العالمية، أن تلعبه؟ لدينا الانطباع أن باريس شاخت.
ما حدث في لندن رائعٌ وجميل، التحية لقاطني وناخبي مدينة لندن. إنه مثال جميل. أمّا عن باريس ودورها، وهل شاخت أم لا، فنعم ولا. فأنت ترى، اليومَ، في باريس، في الأفلام وعلى شاشات التلفزيون، فنانين ومبدعين يأتون إليها من كل بقاع الأرض، ويمنحون، عن طريق حضورهم، وجهاً شابّاً ومتفتّحاً ومختلطاً للعاصمة باريس. لقد تغيرت باريس منذ عشرات السنين، ففي مجال الطب والتكنولوجيا، الكثيرُ من الأُطُر، في شركات الاتصالات والتكنولوجيا فرنسيون من أصول جنوبية، أي دول الجنوب، هذا لا يكفي، ويجب أن نُواصل في هذا الميدان، ولديّ ثقة بأن الأمر ستتسارَع وتيرَتُهُ. إنه متعلّقٌ بتاريخ فرنسا، فنحن في تاريخ بلدنا عرفنا لحظات تَراجُع ثم مراحل "تذويب إيجابي"، وهي عملية تذويب متبادَل، لأنها تؤثر أيضًا على المزاج الفرنسي. ففرنسا نجحت في أن تكون بوتقة. وأنتَ لا يمكنك أن تتخيل، قبل الحرب العالمية الثانية، كيف كان الإيطاليون يُعاملون معامَلَة سيئة، أكثر بكثير مما يعانيه المغاربيّون، وكانوا عرضة للشتائم والإهانات والهجمات، والآن، لا أحد يعرف، في فرنسا، مَن هو الإيطاليّ ومن هو غير الإيطالي! توجد في فرنسا قدرةٌ كبيرة، قديمة ومتوارَثة، على الامتزاج، وأنا لديّ ثقة في ذلك.
اقــرأ أيضاً
* هل سيتحقق الفوز في الحرب على الإرهاب؟
الإرهاب قضية أخرى، لأنه غير مرتبط، ضرورة، بديانة محددة. ولا بأصل جغرافي أو ثقافي. الإرهاب هو، قبل كل شيء، ظاهرة تطرّفٍ (راديكالية) ذهنيٍّ لدى شباب ضائعين وأوْغاد، في الغالب، يجدون في "الجهاد" مُبرّراً لحيواتهم، ولا يعرفون، في غالب الأحيان، شيئاً عن الإسلام ولا عن العالَم العربي. وقد منحهم خبراء البروباغاندا لدى تنظيم "داعش" جُملاً قصيرة مغلوطة عن القرآن الكريم. وأذكّرك أنه يوجد من بين هؤلاء الذين شاركوا في "الجهاد" مسيحيّون سابقون، أيضًا، وهم بنسبة 30 إلى 40 في المائة، والذين يجدون فيه، أي "الجهاد"، نوعا من "المثل الأعلى" إذا جاز القول. يتوجب النجاح في استئصال تنظيم "داعش"، في العراق وسورية وليبيا، لكن الحرب لا تكفي، لأن الأمر يتعلق بعمل داخلي يجب القيام به في كل بلد، على حدة، حتى لا يسقط الشَّبابُ في شَركه. إنه عملٌ يتمّ إنجازُهُ عن طريق الثقافة، والتربية والتعليم، وعن طريق سياسة أخرى تمنح "المثال" و"اليوتوبيا" للشباب، لأن السياسة، اليومَ، أصبح ينقُصُها النَّفَسُ والحماسُ. لن نقضيَ على الإرهاب إلا إذا حاربنا "داعش"، وحاربنا، أيضا، جذور التطرف في بلدان عديدة.
* هل كتبت مذكّرات أم أنت بصدد كتابتها، خصوصا الفترات التي رافقت فيها الرئيس فرانسوا ميتران، التي شهدت فيها فرنسا نهضة ثقافية، خاصة مثل إنشاء معهد العالم العربي والأوبرا الجديدة وعيد الموسيقى الذي صار تقليدا سنويا يتجاوز فرنسا؟
للأسف لا. ليست لديّ الجرأة في إنجاز ذلك. وحفيدتي لا تتوقف عن طرح سؤال: "متى ستكتب مذكراتك؟". يجب توفُّر الجرأة والوقت معًا.
يجب على المرء أن يكون، في آن واحد، متمتعًا بمنهجيّة ومتحمّساً. ثم يجب متابعة فكرة واضحة، وإرساء جسر حقيقي بين العالَم العربي والعوالم الأخرى. لقد حاولتُ استعادة الثقة، من جديد، واستعادة الإيمان والحماس على كل الأصعدة، ومنها تدريس اللغة العربية، حيث قمنا بتعزيز تدريسها في المعهد، وأيضًا الأحداث الكبرى التي تترك أثراً في المخيال، وكذا تنظيم ندوات ولقاءات ونقاشات ومنتديات. هذا بعضُ ما أنجزناه. ثم إني أعتبر أن شخصيتي أدّت دوراً ما، فأنا نسبيًا، شخصيةٌ معروفة في العالَم العربي ولديّ أصدقاء عديدون، في كل مكان. وحتى في فرنسا، ذاتها، أحظى بدعم كبير. ثم إننا حين نشاءُ نستطيعُ.
وضعت أمامي هدف تغيير الأسلوب القديم الذي أدى إلى الأزمة التي شهدها المعهد منذ عدة أعوام، ونجحت في الوصول إلى الهدف.
* أي هل كانت الأزمة، في نظرك، اقتصادية، أي مالية محضة؟
كانت، في جزء ما، اقتصادية، ولكن كانت أيضًا أزمة تخييل. أزمة حكامة، أزمة كهولة وأزمة تعب وافتقاد المرونة، ولهذا كان من الضروري منحُ ألوان ومنح حياة ومنح الأمل وخلق الحركة، من جديد. أي التحرك في جميع الاتجاهات، وهذا ما كان.
إنها قصة طويلة. لكننا سنحتفل في العام القادم بالذكرى الثلاثين لانتقال معهد العالَم العربي إلى مقره الحالي على ضفاف نهر السين، الذي افتتحه الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، سنة 1987. لقد مرّ المعهد بعدة مراحل ولحظات منذ تأسيسه. إذ منذ البداية كان يتوجب على البلدان العربية تقديم مساهمة مالية تعادل، تقريبًا، مساهمة الدولة الفرنسية. ثم حدث أن بعض البلدان العربية لم تَفِ بالتزاماتها، أو أنها دفعت، بشكل متأخر، مستحقاتها، وهو ما جعل المعهد يعرف، في بعض الأحيان، أزمات مالية خطيرة. فالميزانية كانت ترتكز على المساهمَتَين، الفرنسية والعربية، ولكن كانت تنقص، في نهاية السنة، الكثيرُ من الأموال.
إذن عرف المعهد أزمات مالية كثيرة، ثم إن بعض مسؤولي المعهد لم يُديروا الأمر بما يكفي من الصرامة. ربما أنفقوا كثيرًا، والحقيقة أني لا أعرف على وجه التحديد ماذا وقع. باختصار، حين تحملتُ المسؤولية، كان المعهد لا يزال مُكبَّلًا ببعض الديون والقروض. وأنا لا أستطيع تحمل الأمر. لا أتحمل العجز المالي ولا أتحمل القروض، إنْ في حياتي الشخصية أو في الحياة العمومية. وحين وصلتُ إلى المعهد اتخذتُ إجراءات اقتصادية، أي تقشف اقتصادي!، كما حاولتُ، بشكل خاص، أن أطْرُقَ أبواباً عديدة، من أجل تمويل الأحداث الكبيرة من خلال مساهمات إضافية. وأيضًا، عن طريق جذب جمهور كبير جدًا. وأعطيك، مثلًا، ما يتعلق الآن، بمعرض "حدائق الشرق"، فقد تمّ إطلاعي، أمس، على أرقام الزائرين، الذين وصلوا إلى 300 ألف زائر. الأمر واضحٌ، فأنت تعرفُ أن الدينامية تنتج الدينامية. وحين تحضُرُ هذه الدينامية يَحضُر، بالضرورة، رُعاة الثقافة والفنّ، كما يكون الجمهور على موعد.
* إذن فالمعهد تجاوَز الأزمة، وهو في وضعية مريحة؟ وفرنسا والعرب هل يؤديان مستحقاتهما المالية؟
نعم، لقد تجاوزنا الأزمة، ونحن في وضعية جيدة جدًا. أما في ما يخص المستحقات، فلا مستحقات، من الآن فصاعدًا. انتهى الأمر، وهو الحل الأفضل لسير عمل المعهد. فنحن لا نستطيع أن نظلّ مرهونين بمساهمات غير مضمونة. وأنا أتحدث، هنا، عن إسهامات البلدان العربية، أما فرنسا فهي وفيّة لتعهداتها المالية السنوية التي تدفعها بانتظام.
* إذن فلا مساهمات مالية عربية، الآن؟
لا يمكن أن نظل، دائمًا، في حالة تبعيَّة. ومن الأفضل أن نكونَ أحرارًا، حتى وإن لم نكن أغنياء كثيرًا. وفي ما يتعلق بكل حَدث وكل مَعْرض فأنا أحرص على الحصول على تمويل خاصّ. فمثلًا، المعرض الذي خُصّص عن الحج (إلى مكة المكرمة)، حصلنا على مساهمة من مكتبة الملك عبد العزيز بالرياض. لقد حصلنا منها على مساهمة مالية وأيضًا على مساهمة فكرية، عبر إعارتنا وثائق نادرة وتحفاً فنية لم تخرُجْ أبدًا، من قبلُ، من المملكة العربية السعودية. وأعطيك مثالًا ثانيًا، عن "المغرب المُعاصر"، فقد توجهت للقاء الملك المغربي، محمد السادس، الذي أكنّ له مودّة كبيرة، وتربطني به علاقات ثقة، فوعدني بالمساعدة، وهكذا ساعدتنا العديد من الشركات المغربية وقدمت لنا بعض الأموال لتمويل هذا المعرض.
صحيحٌ. لقد تَزامَن معرض "المغرب المعاصر"، مع فتور عرفته العلاقات السياسية المغربية الفرنسية، بسبب قصة عبثية. وحين كنتُ بصدد الإعداد لهذا المعرض، تحدثتُ كثيرًا إلى الصحافة المغربية، وعبّرتُ، في معظم الأحيان، عن صداقة بلديْنا، التي لا يجب أن تتأثر بهذه القصة العبثية. ومن جهة أخرى، كلّف الملك محمد السادس شقيقته الكبرى للّا مريم بتدشين المعرض، جنباً إلى جنب، مع رئيس الجمهورية الفرنسية، فرانسوا هولاند. نعم، لقد لعب هذا المعرض دورًا في الحفاظ على الصداقة المغربية الفرنسية. وحتى ننتهي من سؤال المَعهد والأموال، ففيما يخصّ بعض المعارض، وأذكر لك "معرض أوزيريس"، فإن إحدى المؤسَّسات التي تقوم بتمويل أبحاث وحفريات الباحث والعالِم الفرنسي غوديو، الذي وضع تصميم المَعرض، ("أرتيفيا" التي تمول حفرياته في البحر)، قبلت تمويل استثمار مَعرض أوزيريس، واستفادت، لاحقًا، بقسم كبير من المداخيل. وبالنسبة لنا فالأمر جيّد، لأننا لا نخاطر بشيء. وبالنسبة لمَعرض "حدائق الشرق"، فقد حصلنا على بعض المساعدات، خاصة الماديّة، أي الطبيعية، مثلًا، بعض الجوانب من الحديقة التي توجد في الخارج، فقد منحنا بعض البستانيين الفرنسيين كما منحنا آخرون من صقلية وغيرها، كل الأزهار، خلال خمسة أشهر. لقد كانوا رائعين معنا. وهكذا يتوجب علينا أن نكون خلّاقين ومبتكرين.
* شهدت فرنسا، خلال الفترة الأخيرة، اعتداءات إرهابية دامية، فما هو الدور الذي اضطلع به معهد العالم العربي، لمعالجة التداعيات التي تأثرت بخلط الإسلام بالإرهاب؟
اتخذنا إجراءات كثيرة. أذكر من بينها تنظيمنا، قبل شهرين، اجتماعًا لأئمّة فرنسا، خلال يوم كامل، انتهى بنشر بيان أعلنوا من خلاله أنهم "جمهوريون" وأنهم "يساندون الجمهورية الفرنسية" وأنهم "مواطنون يرفضون كل أشكال الإرهاب" وأنهم ينحازون إلى "إسلام سلام وإسلام أنوار"، ثم إن المعهد نظَّم محاضرات كثيرة حول الموضوع نفسه. المعهد يلعب أيضًا دور التفسير والتنوير. ليس في الأمر بروباغاندا، ولكن لإظهار حقيقة أن الإسلامَ ليس هو القَتَلة.
نعم، فمعهد العالم العربي أسَّسَ في منطقة "نور با دو كاليه" (Nord-Pas de Calais) في مدينة "توركوان" (Tourcoing) بيتاً لمعهد العالم العربي، وسنشهد تطورًا كبيرًا في قلب المدينة، من أجل تقديم النشاطات الباريسية نفسها لهذه المناطق الشعبية. كما أن لدينا علاقات وثيقة مع منطقة "سين- سان- دونيه" Seine-Saint-Denis (الضاحية الشعبية لباريس) وضاحية "سين-إي- مارن" Seine-et-Marne، الباريسية أيضًا. ويستقبل المعهد الكثير من التلاميذ والطلبة، ونحاول أن نساعد، في كل المناطق، المبادرات التي تتوجه إلى الشباب، بشكل خاص. ثم إن المعهد يقدّم نشاطات خاصة بالشباب، وقد أدخلتُ في البرمجة الموسيقية للمعهد أشكالًا موسيقية معاصرة، كالهيب هوب، مثلًا، أو الموسيقى الإلكترونية، وعرفت نجاحًا كبيرًا جدًا. ويجب علينا أن نستمرّ في هذا المجال.
* يرى كثيرٌ من المفكرين ومن رجال السياسة أن الثقافة يمكن أن تعالج الكثير من القضايا، وها نحن نرى كيف تم انتخاب ابن لسائق حافلة باكستاني (صادق خان) عمدةً لمدينة لندن مؤخرًا. ماذا عن الدور الذي يجب على باريس، عاصمة الثقافة العالمية، أن تلعبه؟ لدينا الانطباع أن باريس شاخت.
ما حدث في لندن رائعٌ وجميل، التحية لقاطني وناخبي مدينة لندن. إنه مثال جميل. أمّا عن باريس ودورها، وهل شاخت أم لا، فنعم ولا. فأنت ترى، اليومَ، في باريس، في الأفلام وعلى شاشات التلفزيون، فنانين ومبدعين يأتون إليها من كل بقاع الأرض، ويمنحون، عن طريق حضورهم، وجهاً شابّاً ومتفتّحاً ومختلطاً للعاصمة باريس. لقد تغيرت باريس منذ عشرات السنين، ففي مجال الطب والتكنولوجيا، الكثيرُ من الأُطُر، في شركات الاتصالات والتكنولوجيا فرنسيون من أصول جنوبية، أي دول الجنوب، هذا لا يكفي، ويجب أن نُواصل في هذا الميدان، ولديّ ثقة بأن الأمر ستتسارَع وتيرَتُهُ. إنه متعلّقٌ بتاريخ فرنسا، فنحن في تاريخ بلدنا عرفنا لحظات تَراجُع ثم مراحل "تذويب إيجابي"، وهي عملية تذويب متبادَل، لأنها تؤثر أيضًا على المزاج الفرنسي. ففرنسا نجحت في أن تكون بوتقة. وأنتَ لا يمكنك أن تتخيل، قبل الحرب العالمية الثانية، كيف كان الإيطاليون يُعاملون معامَلَة سيئة، أكثر بكثير مما يعانيه المغاربيّون، وكانوا عرضة للشتائم والإهانات والهجمات، والآن، لا أحد يعرف، في فرنسا، مَن هو الإيطاليّ ومن هو غير الإيطالي! توجد في فرنسا قدرةٌ كبيرة، قديمة ومتوارَثة، على الامتزاج، وأنا لديّ ثقة في ذلك.
الإرهاب قضية أخرى، لأنه غير مرتبط، ضرورة، بديانة محددة. ولا بأصل جغرافي أو ثقافي. الإرهاب هو، قبل كل شيء، ظاهرة تطرّفٍ (راديكالية) ذهنيٍّ لدى شباب ضائعين وأوْغاد، في الغالب، يجدون في "الجهاد" مُبرّراً لحيواتهم، ولا يعرفون، في غالب الأحيان، شيئاً عن الإسلام ولا عن العالَم العربي. وقد منحهم خبراء البروباغاندا لدى تنظيم "داعش" جُملاً قصيرة مغلوطة عن القرآن الكريم. وأذكّرك أنه يوجد من بين هؤلاء الذين شاركوا في "الجهاد" مسيحيّون سابقون، أيضًا، وهم بنسبة 30 إلى 40 في المائة، والذين يجدون فيه، أي "الجهاد"، نوعا من "المثل الأعلى" إذا جاز القول. يتوجب النجاح في استئصال تنظيم "داعش"، في العراق وسورية وليبيا، لكن الحرب لا تكفي، لأن الأمر يتعلق بعمل داخلي يجب القيام به في كل بلد، على حدة، حتى لا يسقط الشَّبابُ في شَركه. إنه عملٌ يتمّ إنجازُهُ عن طريق الثقافة، والتربية والتعليم، وعن طريق سياسة أخرى تمنح "المثال" و"اليوتوبيا" للشباب، لأن السياسة، اليومَ، أصبح ينقُصُها النَّفَسُ والحماسُ. لن نقضيَ على الإرهاب إلا إذا حاربنا "داعش"، وحاربنا، أيضا، جذور التطرف في بلدان عديدة.
* هل كتبت مذكّرات أم أنت بصدد كتابتها، خصوصا الفترات التي رافقت فيها الرئيس فرانسوا ميتران، التي شهدت فيها فرنسا نهضة ثقافية، خاصة مثل إنشاء معهد العالم العربي والأوبرا الجديدة وعيد الموسيقى الذي صار تقليدا سنويا يتجاوز فرنسا؟
للأسف لا. ليست لديّ الجرأة في إنجاز ذلك. وحفيدتي لا تتوقف عن طرح سؤال: "متى ستكتب مذكراتك؟". يجب توفُّر الجرأة والوقت معًا.