تعد "الحركة المصرية للتغيير- كفاية" واحدةً من أهم تجارب التقارب الأيديولوجي في تاريخ الحراك السياسي بمصر، ليس بسبب توقيت ظهورها في يوليو/تموز من عام 2004، بل بسبب حيثيات هذا التقارب والتداعيات التي خلفها داخل النخب السياسية وفي الشارع المصري. إذ أظهرت خبرة الأحزاب السياسية منذ عقد السبعينيات قصور النخب الأيديولوجية في إنشاء حوار فاعل مع الشارع المصري، واكتفاءها بترديد الشعارات والتقاتل على مناصب تحفظ لها الوجود الاسمي في النقابات والصحف الحزبية.
وبالتالي، لم يكن متوقعًا أن تتقارب القوى السياسية في حركة جامعة من أجل التغيير، ولا أن تتوجه إلى الشارع المصري بمبادرات تعزز الدفاع عن حقوقه، لولا ظهور الدكتور عبدالوهاب المسيري باعتباره قطبا في الحراك السياسي منذ مطلع الألفية. إذ اجتمع للدكتور المسيري قوة فكرية نقلت مستوى الحوار بين التيارات الأيديولوجية ووضعت قيمة "الإنسان" مركزًا ووجهة للعمل السياسي، ثم أضاف إلى هذا حضورًا أثرى الحركة الاحتجاجية وأدخل وجوهًا لم تكن لتترك مقاعدها في قاعات الدرس أو صالونات الفكر والأدب، لولا نزوله شخصيًا إلى الشارع...فكيف تم هذا؟
بناء النموذج
تولى الدكتور المسيري قيادة حركة كفاية في يناير/كانون الثاني، وبحسب ما يؤكده خبراء ومتخصصون، فإن خطاب الدكتور المسيري اتسم بالقرب من فئات عريضة من الجماهير، لاعتماده على النزاهة والاستقامة العلمية والقدرة على التواصل مع الجميع، من الإسلاميين واليساريين والليبراليين لاتساع مشاربه وتناوله للمقولات المؤسسة لتلك لقوى السياسية بالبحث والتمحيص.
ومن ناحية، كانت دراسته للأدب الإنكليزي وتاريخه، مدخلاً لبحث عمليات التحديث والعلمنة التي جرت بشقيها في العالم العربي، والذي كان بدوره مدخلاً لفهم مقولات التيار الإسلامي الذي بدأ في الأصل كمحاولة لعلاج التشوه في منظومات التعليم والفكر والثقافة والتخطيط الاجتماعي وشؤون المرأة، إلى آخره.
ومثال على هذا تناوله مسألة "عمل المرأة" من مدخل فلسفة الوقت، و"تثمينه" في المجال العام للإشارة إلى حجم الاستغلال والتسليع الذي استهدف قيمة "الإنسان" في المجتمع الحديث، لا من قبل الدولة والمجتمع فحسب، بل في المجال الخاص أيضًا. وبدلًا من الانخراط في جدالات التأييد والمعارضة، والموازنة بين أولويات الخروج للمجال العام أو تربية الأطفال، أو مناقشة السيطرة الذكورية على المرأة وحدود المنع والإباحة، ينقل المسيري الحوار إلى مستوى الأسس والغايات بما يفسح المجال لخلق موازنات بين الاتجاهات المتناحرة ويجمع الرأي العام على رفض "التسليع" كمبدأ وممارسة.
ومن ناحية أخرى، أثرت خبرة الدكتور المسيري المبكرة داخل الحزب الشيوعي المصري في التأصيل لمفهوم "الإنسان" باعتباره قيمة تتوازن فيها المادة والمعنى وتحوي عناصر التجاوز التي لا تحبسه داخل الحتميات المادية ولا تجعل الإلحاد ملازمًا لليسارية كتيار فكري أو ممارسة في الواقع، هذا التوازن الذي عبر عنه بالتفرقة بين "الماركسية المادية" و"الإنسانية الماركسية"، وكان يمزح بشأنه قائلاً: "كنت ماركسيًا على سنة الله ورسوله"، وكان لموقفه صدىً واسعًا داخل التيارات السياسية، إذ خلق مساحة بينية تضع المغالين من اليسار والإسلاميين على طرفي متصل طويل تتمازج فيه مختلف الرؤى والتوجهات الفلسفية /السياسية، وهو الأمر الذي دعا القيادات الحزبية والرموز الفكرية لمراجعة خياراتها السياسية، ولو مؤقتًا وبعد حين، والالتفاف حوله داخل حركة "كفاية".
وتنبع الرمزية الفكرية والسياسية للدكتور المسيري من قدرته على تجاوز الثنائيات وتوحيد المنطلقات، ونقل مستوى الحوار السياسي وأدواته نحو غايات أكثر شمولاً، ولم يكن انتماؤه لحزب الوسط ومن قبله الحزب الشيوعي دافعًا للتعصب لموقف فكري أو سياسي بعينه، وإنما للتأصيل والتقريب وبناء التحالفات أولاً في ساحة الفكر، ثم لاحقًا في الشارع السياسي، تلك التحالفات التي انبنت، في الأصل، بفضل استقامته العلمية واعتداله الفكري.
المسيري داخل حركة كفاية
تأسست حركة "كفاية" بعد جهود طويلة بذلها الدكتور المسيري، باعتباره عضوا مؤسسا في حزب الوسط، في التقريب بين القوى السياسية من خلال برامج نظمها الحزب لرفض التطبيع ومقاومة الصهيونية ودعم الانتفاضة الفلسطينية منذ عام 1995.
ويقول أبو العلا ماضي، رئيس حزب الوسط لـ"العربي الجديد" عن دور المسيري داخل الحركة: "لم يكن المسيري مهتمًا بتفاصيل المحاصصات والموازنات بين القوى السياسية، لكن هيبة حضوره كانت تلجم الخلافات وتحرج المتنازعين على قيادة الحركة، فقد كان حضوره بلسمًا شافيًا لجميع المتعاركين، وكان أحرص الناس على التواصل مع جميع القيادات، وكان مهتمًا بحضور جميع المظاهرات، حتى أنه كان يلومني كثيرًا إذا ما تناسيت إخباره بموعد إحداها شفقة عليه من "البهدلة" بعدما اشتد به المرض في أواخر حياته".
اجتذب الحضور القوي للدكتور المسيري العديد من الأدباء والمحامين وأساتذة الجامعات والفئات التي لم يسبق لها الظهور في المجال العام، وكان العامل الأبرز في هذا هو اتساع علاقاته واستمداد الحركة من تضحياته وكفاحه، سواء في العلم أو السياسة، فقد كان ينفق على حركة كفاية من ماله الخاص، ومن قبلها على دراسته الموسوعية في "اليهود واليهودية والصهيونية"، وكان يجري كافة لقاءاته في منزله ويتحرك بين الناس في الشارع، ولم يستثنِه النظام من القمع والتنكيل، رغم سنه ومكانته ومرضه، وحينما انتقد بعضهم انتماءه إلى حزب الوسط، على افتراض أن مكانة المفكر لا تليق بالانتماء الحزبي، يذكر أبو العلا ماضي أنه أتى بتاريخ العمل السياسي لأعلام المفكرين للاستدلال على عدم التعارض بين الاشتغال بالفكر والانتماء لأحزاب سياسية. كذلك، كان المسيري أحرص الناس على تمكين الشباب داخل "كفاية" وخلق المساحات للحوار والتعايش والعمل السياسي المشترك، وذلك من خلال المؤتمرات والكتابات الفكرية والمحاضرات والاشتراك في المظاهرات والمسيرات، آملاً في أن يخلف من بعده جيلاً يعلي من الروح الوطنية ويحمل شعلة التغيير.
وفاته ووفاة كفاية
لم يطل عمر المساحات البينية التي خلقها المسيري داخل حركة كفاية، خاصة بعد وفاته، كما يرى رئيس حزب الوسط، وهو من أول الداعين والمؤسسين للحركة، مشيرا إلى أن الحركة توفيت خلال الفترة ما بين عام 2007 و2008، بعد احتدام الخلافات بين التيار الناصري بقيادة حمدين صباحي وباقي القوى التي لم تقبل سيطرة الناصريين على الحركة. وكان قبول الدكتور المسيري لمنصب المنسق العام للحركة مطلبًا جماعيًا ومدًا في أجلها بعدما حفتها الوفاة، حتى إذا ما توفى لم يبق منها إلا أثرًا بعد عين، وانفض عنها الجمع الذين منحوها زخمًا وحضورًا كبيرًا في الشارع المصري.
ويعد "ضمير" المسيري أول وأهم ضمانات تحقيق الحركة لأهدافها، وهي كسر حاجز الخوف ورفع سقف المعارضة وإحياء الضمير الوطني، وإذ تحقق هذا، أعقبت وفاة الدكتور المسيري استقالة جماعية للمؤسسين وإعلانا بانتهاء الحركة لتبرز من رحمها عشرات التجمعات الشبابية التي قادت حراك الشارع المصري عام 2011.
راهن المسيري على أن تكون حركة كفاية مظلة وطنية يجتمع تحتها كل المطالبين بالإصلاح، وكان لثرائه الفكري وتنوع مشاربه واعتدال مواقفه أثر في جمع القوى والمواقف المتناحرة، كما أثر خطابه في نقل مستويات الحوار وإعادة تأسيس مفهوم العلمانية وتأصيل قيمة "الإنسان"، وكان من الممكن أن تثمر جهوده في استقطاب تيار عريض من الشباب للشارع السياسي، لولا احتدام الصراع أفقيًا بين القوى السياسية ورأسيا بين الأجيال، بما جعل الشقاق حتمي لا مفر منه.
ورغم مرور سنوات طويلة على وفاة الدكتور المسيري في يوليو/تموز 2008، ما زال ممكنًا ومهمًا التأمل في نموذج المسيري وحركة "كفاية"، باعتباره مفكرا زهد في السلطة وحاز سلطة العلم ومكانة الأستاذ ومنزلة المعلم، وتلك الحركة التي أثبتت أن صراع الأيديولوجيا إنما يرتبط بنوعية النخب والقيادات أكثر من ارتباطه بالمقولات الفكرية، وأن السبيل لحركة وطنية جامعة هو عمل فكري وحراك مشترك يجمع الاتجاهات والتيارات في مساحة بينية تقبل التعدد وتفرض قواعد أخلاقية وقيمية واضحة للعمل السياسي، بينما تتجنب فرض خيارات أيديولوجية أو تنظيمية محددة، بل تركز أولويتها على إنقاذ الإنسان المصري وردّ استحقاقاته من الدولة.