خلال إحدى زياراته إلى "جامعة وهران" منتصف التسعينات من القرن الماضي، راح عثمان لوصيف (1951 - 2018)، الشاعر الهارب من الصحراء إلى وجهةٍ للبحر، يقرأ من "المركب السكران" لـ آرثر رامبو بلغةٍ فرنسية رشيقة، وكأنه ينشد من كتابٍ مقدّس.
بعد عشرين سنة من تلك اللحظة، سيُفاجئ لوصيف الجميع، وهو في منتصف العقد السابع من عمره، بإنجازه أطروحة دكتوراه عن رامبو نفسه في جامعة وهران نفسها، مؤكّداً ارتباطه بـ "طفل شكسبير"، كما لقّبه مواطنه الفرنسي فيكتور هوغو.
لم يستطع أحد فكّ شيفرة ارتباطه الوثيق بالشاعر الفرنسي؛ حتى أنه يعترف في مقدّمة أطروحته "التجربة الشعرية عند رامبو" بوجود سرّ غامضٍ يشدّه إليه بقوّة، و"لا أعرف، حتى الآن، طبيعته بوضوح كاف".
يضيف: "لذلك، لم أكلّف نفسي مشقّة التفكير في اختيار موضوع البحث المتواضع، ما دامت جذوة ذلك الهاجس لم تنطفئ بعد في أعماقي، ولم تزدني مذكّرة الماجستير التي أنجزتُها حول "فصل في الجحيم" للشاعر ذاته إلّا عزماً وتصميماً على محاولة الإحاطة بتجربته الكلّية".
لن يفرح صاحب "شبق الياسمين" (1986) كثيراً بإنجازه العلمي؛ إذ رفض القائمون على الجامعة الجزائرية توظيفه أُستاذاً بسبب "تجاوزه السنّ القانونية"، هو الذي أُحيل إلى التقاعد منذ فترة، بعد سنواتٍ من العمل في التعليم الثانوي. تزامن ذلك مع بداية مرضه الذي رفعه طفلاً على مقربة من السبعين، محتفظاً بصمته العميق وابتسامته الواسعة وابتعاده عن الأضواء.
مرّ عمره كأنه طفولة طويلة بدءاً من لحظة الميلاد في واحة طولقة (جنوب الجزائر العاصمة)، مروراً بمحطّات كثيرة؛ أبرزها دراسته القرآن بالطريقة التقليدية، والتحاقه بالجامعة في عمرٍ متقدّم، وليس انتهاء بشهادة الدكتوراه.
تتخلّل كلّ ذلك إصدارته الشعرية الكثيرة؛ بدايتها "الكتابة بالنار" (1982) التي تصلح لأن تكون عنواناً جامعاً، ليس لكتاباته فحسب، بل لمسيرته بشكلٍ عام.
وما لم يقله لوصيف عن سرّ ارتباطه بشاعره المفضل، يُفسّره السياق الذي بدأ الكتابة فيه؛ فهو ينتمي إلى "جيل الثمانينيات" الشعري الذي حاول تجاوز خطاب الهوية القديم وأيديولوجية جيل السبعينيات اليسارية، ناظراً نحو آفاق الشعر في العالم، بحثاً عن لحظة كونية إنسانية تنطلق من تجربة محلية، في توليفة لم يستوعبها الخطاب القديم.
توقّف رامبو عن كتابة الشعر في بداية العشرينات من عمره، واحترف الصعلكة، هائماً في القارّة الأفريقية. لكن تجربة "صديقه" عثمان تواصلت إلى آخر عمره، ربما لأنه سافر طويلاً إلى أدغال نفسه، مكتفياً بذاته، بعيداً عن الأضواء، وهو ما جلب له الاكتئاب وغرابة الأطوار، كما رآه من حاولوا الاقتراب منه ولم يفهموه، لأنه كان من طينة أخرى غير طينتهم.
وكأن صاحب "أعراس الملح" (1988) كتب بالنار فعلاً؛ فقد نشر العديد من المجموعات الشعرية على حسابه الخاص، واضطرّ لبيع بعض ما يملك لطباعة بعض أعماله. وعندما لم يجد ما يُكرّم به زوجته التي عانت معه مرارة التجربة، طبع صورتها على غلاف إحدى مجموعاته الشعرية. تقديرٌ لم يحصل عليه هو نفسه من المؤسّسات الرسمية.
لا يذكره المقرّبون منه إلّا مبتسماً، رغم مرارة تجربته، متذكّرين عبارةً أو موقفاً طريفاً منه؛ فقد كان صاحب "جرس لسماوات تحت الماء" (2009) "طفل رامبو" الأبدي، مثلما كان رامبو "طفل شكسبير"، والأطفال يفهمون بعضهم بعضاً... يلعبون في عالمهم الجميل، مثلما قضى لوصيف حياته طفلاً لم يكبر، ثمّ غادر مبتسماً من شدّة الألم.