رزق الدجالين على المساكين

23 ديسمبر 2015

ليلى عبد اللطيف في أحد برامجها (يوتيوب)

+ الخط -
ما إن يقترب هلال الشهر الأخير من السنة الميلادية من البزوغ، حتى تتحفز محطات التلفزة والإذاعات والصحف العربية لاستضافة عشرات الدجالين وقارئي الفناجين والكف وضاربي الرمل والمندل، علاوة على قبيلةٍ كاملةٍ من الأفاقين الذين لا تتجاوز عُدة النصب لديهم الكرة الزجاجية أو أوراق التارو، وغير ذلك من صنوف الزعبرة، مثل كتابة الأحراز والتمائم والطوالع وتفسير المنامات، لا على طريقة فرويد، بل على طريقة ابن سيرين. أما الكتب التي يستند إليها هؤلاء فهي خرافات "شمس المعارف الكبرى" وملتقطات أبو معشر الفلكي. وهذا الأمر برهان إضافي على أن الفساد ليس موجوداً في الدول وحدها، بل إن هناك فساداً عقلياً مروِّعاً وخراباً فكرياً هائلاً، يغمر الناس من جميع الجهات. ويتمثل هذا الفساد بآلاف الدجالين، وعدد لا يحصى من المنجمين الذين اشتهر من بينهم سمير طنب وميشال حايك وسمير زعيتر وليلى عبد اللطيف ووفاء الزين وفاطمة البصارة، حتى ليصح القول إن رزق "البصّارين" كُتب حقاً على المساكين.
هناك فارق جوهري بين علم الفلك (Astronomy) والتنجيم (Astrology)، فعلم الفلك هو علم الفضاء الذي يُدرّس في الجامعات، وتُختبر نظرياته وتطبيقاته في مراكز البحوث، مثل وكالة NASA الأميركية. أما التنجيم فيمارسه المشعوذون والكهان والعرافون، ومَن لف لفهم، وغزل على مغزلهم، ونسج على منوالهم. وينتشر التنجيم لدى جميع الفئات الاجتماعية، وبين الأشخاص القلقين والتائقين إلى معرفة ما تخبئه لهم مصائرهم، كالمرضى والعوانس واللواتي تأخر حملهن، وحتى رجال السياسة والأعمال والفنانين ومراهني سباقات الخيل. وقد انتهى، إلى حد بعيد، زمن الترّهات القديمة، مثل: "إذا نعب غراب وجاوبته دجاجة، فإن ذلك يدل على خراب يعمر، وإذا قوّقت دجاجة وجاوبها الغراب فإن ذلك يدل على عمران يخرب"، وصارت الشعوذة معاصرة، والمشعوذون يرتدون، اليوم، ربطات العنق ويقودون سيارات بستة أبواب. ومع ذلك، فإن "الطب العفاريتي" ما برح أهم من الطب البشري.
في بداية الاجتماع الإنساني، كان رئيس القبيلة هو الساحر والكاهن والطبيب معاً. وبالتدريج، بدا بعض هذه الوظائف ينفصل عن بعضها الآخر، فصار لكل قبيلة رئيس وكاهن وطبيب وساحر. وكانت وظيفة الساحر إخافة الناس. أما الكاهن فوظيفته طمأنة الناس وإراحة نفوسهم بطرد الشرور وإبعادها عنهم. وما زال الأمر يتكرّر، حتى اليوم، بصيغ مبتذلة. وما يعزّز ظاهرة التنجيم والتبصير مئات الروايات القيامية عن نهاية العالم وظهور الأعور الدجال، وعن الأسرار والخفايا التي أُودعت لدى سلائل بشرية محددة، أو في مغارة دانيال في المغرب التي تفتح بابها مرة واحدة في كل عام، فيدخل إليها أفراد مختارون، يمضون فيها سنة كاملة، وهم يعبّون من "معارفها" الباطنية، إلى أن تفتح بابها مجدداً، فيخرجون وقد تزودوا بمعرفة الغيب، وما يخبئه المستقبل. ولا ريب أن هذه الظاهرة تتقوّى بكتبٍ لها قدسيتها عند فئات كثيرة من الناس، مثل الجفر أو رؤيا يوحنا، أو حساب الجُمّل والقبالاه اليهودية، وتفسيرات فواتح السور وغيرها.
ثمّة عمليات انتحارية لا تتوقف يشنها الجهل ضد العلم. والجهل، هنا، هو المتنبئون والمنجمون والعرّافون ومفسرو المنامات والوسطاء الروحيون ومعالجو المرضى بالرقى والتعزيم، وهؤلاء جميعاً لا يفتقرون إلى الذكاء أحياناً، وإلى سرعة ابتداع المخارج من الحيل، فقد طلب أحد الملوك من منجم القصر أن يحدّد له ساعة موته. فحار المنجم وخاف إن حدد له ساعة قريبة فقد يقتله غضباً، وإن حدّد له ساعة بعيدة فربما يكتشف خداعه. وبعد تفكيرٍ، قال للملك: إن ساعة موتك يا سيدي ستكون بعد يوم من مماتي. وهكذا أفلت المنجم من الحيرة، مستخدماً حُسن التخلص بجرعاتٍ من الخرافة، وهو ما سينهال علينا بعد أيام.
دلالات