08 نوفمبر 2024
رسائل "انتفاضة التلاميذ" في المغرب
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
شهد المغرب على مدار الأيام الماضية موجة غضب تلاميذه في مناطق عديدة، للمطالبة بإسقاط التوقيت الصيفي. وبلغت ذروتها يوم الإثنين المنصرم الذي صادف دخول قرار الحكومة اعتماد التوقيت الجديد (غرينتش + ساعة) طوال السنة، حيز التنفيذ. وخلّفت هذه الاحتجاجات التي طبعتها العفوية والتلقائية، في بعض المواقع، فوضى وتخريبا واعتداء على ممتلكات عمومية وخاصة، لكنها تبقى وقائع منفصلة، لم تصل إلى مستوىً يستدعي تدخل الأجهزة الأمنية التي اكتفت بالمتابعة والمراقبة، إلا في حالاتٍ خاصة في مكناس ومراكش وسيدي إفني... واضطرت الحكومة، أمام غضب التلاميذ غير المتوقع، والذي تعدّى نصف مليون محتج، لعقد اجتماع مصغر، انتهى باتهام أطرافٍ معينة، كما جاء على لسان وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، بالعمل على تزييف الوعي، وتحريض التلاميذ على الاحتجاج.
في غمرة انشغال الحكومة بكيل الاتهامات للتلاميذ المحتجين بخدمة أجندةٍ معينة، ورهان قوى سياسية ومجتمعية على هذه المظاهرات، لمضاعفة منسوب الارتباك، في مشهدٍ عام مرتبك أصلا، أملا في استعادة أمجاد انتفاضة التلاميذ في عام 1984. ضاعت الحقيقة التي تكشف عنها مؤشراتٌ عديدة تنذر بأن سياسة الترقيع؛ أو ما تعرف في السياق المغربي بالبريكولاج، لن تجدي نفعا مع الأجيال التي خرجت للاحتجاج اليوم.
عرفت معظم المظاهرات ترديد شعاراتٍ ذات صلة بالموضوع من قبيل: "العثماني.. ارحل"، و"الشعب يريد إسقاط الساعة" و"الساعة فرنسية.. والمعيشة صومالية"، للدلالة على رفض
المبرّرات التي سيقت لخيار الإبقاء على الساعة أولا، ورفض أسلوب الفجائية والارتجالية في تدبير الشأن العام ثانيا. لكن الأمر سرعان ما تطور في بعض المواقع، على غرار ما حدث أمام البرلمان وسط العاصمة الرباط، من ظهور شعاراتٍ عادية تطالب بالعدول عن قرار مواصلة العمل بالتوقيت الصيفي إلى شعاراتٍ مخلةٍ بالحياء، وكلماتٍ نابيةٍ تتضمن سبا وشتما لرئيس الحكومة ولمؤسسات الدولة، قبل أن يصل الأمر إلى مداه بطرح العلم المغربي أرضا، والدوس عليه بالأقدام، ثم الشروع في حرقه جزئيا.
تفاعل الرأي العام المغربي مع هذه السابقة؛ في تاريخ الفعل الاحتجاجي بالمغرب، ظل محدودا جدا، مخافة أن يتطوّر النقاش ليكشف جوهر المشكل، لينطرح سؤال المسؤولية تجاه هذا الجيل... قبل أن ينحرف السجال إلى استنكار وصف أحد قياديي حزب العدالة والتنمية التلاميذ المحتجين بأنهم جيل القادوس (أنابيب المجاري)، ويعتذر عن شتيمته هذه، ونعتتهم زعيمة حزب سياسي بـ"الضباع".
ما حدث أمام البرلمان؛ وفي أماكن أخرى في عدة مدن مغربية، من ظهور شعارات كلها إهانة وسب وشتم، مجرد جرس إنذار، ينبّه الجميع إلى أن الأوضاع داخل المجتمع ليست بخير، ومخالفة تماما لما يتم تسويقه على المستوى الرسمي. ويكشف، في الوقت نفسه، عن عمق الأزمة التي تنخر مؤسسات عديدة، عجزت، أو بالأحرى فشلت، في القيام بالأدوار المنوطة بها. وتسائل احتجاجات التلاميذ هذه منظومة التعليم في المغرب، في مؤشر على أن الأعطاب التي تعاقبت الحكومات منذ سنوات على إصلاحها؛ بإقرار برامج وطنية ومخططات استعجالية، في هذا القطاع، لم تجد نفعا، وإنما فاقمت الأوضاع في قطاعٍ تحول قضية وطنية ذات أولوية. وتأتي مؤسسة الأسرة في الدرجة الثانية، من حيث تشطير المسؤوليات عن مآل هذا الجيل الصاعد. فالظاهر أن الأدوار المسنودة إلى هذه المؤسسة تم التخلي عنها تدريجيا، جراء ضغط قوى الحداثة؛ أو ربما فقط صيرورة التحديث، ما تولد عنه تفكيكٌ للبنيات التقليدية المعروفة في المجتمع المغربي، من دون أن يوازي ذلك إنضاج بدائل؛ أي مؤسسات حاضنة للحيلولة محلها.
تلي ذلك مؤسسات الإعلام؛ وخصوصا الرسمي منه، حيث يظهر أن ما يتم العمل على تقديمه للناشئة في قنوات الإعلام الرسمي المموّل من ضرائب الشعب لا يحمل، في مجمله، محتوى هادفا يساعد على غرس قيم وطنية في الأجيال الصاعدة. بعيدا عن رسالة التوعية والتثقيف، أضحت برامج الإجرام (ساعة في الجحيم، أخطر المجرمين..) وبرامج المسابقات (لالة العروسة، أستوديو دوزيم، القدم الذهبي..) وبرامج تلفزيون الواقع (أجي نتصالحو، بصراحة..) الثالوث الأساسي في مختلف القنوات الإعلامية في المغرب. وأخيرا مؤسسات المجتمع المدني (الجمعيات، النوادي، دور الشباب..) التي تحولت؛ مع انطلاقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أواسط عام 2005، إلى فضاءٍ خصبٍ للكسب المادي والاغتناء السريع للنشطاء فيها، بدل أن تضطلع بمهامها في الرعاية والتأطير وتنشئة جيلٍ وجد نفسه وجها لوجه مع الشارع.
حاولت الدولة تجاهل كل ما سلف، والتعامل مع احتجاجات التلاميذ على أنها مجرد "لعب عيال"، أو طيش في لحظة عابرة ليافعين، يبحثون عن الشهرة، وتحقيق الذات في زمن هيستريا الميديا وصناعة النجوم في وسائل التواصل الاجتماعي. وقراءة آنية لها نصيب من المقبولية، سرعان ما تبدو سطحية عند إمعان النظر فيما جرى، لنكتشف مدى تراجع خوف هذا الجيل وخشيته من السلطة، إلى حد قدرته على شتم ممثليها وإهانتهم علنا، وارتفاع مستوى العنف اللفظي في خطاب التداول ولغته بين أفراده، ومنسوب الاحتقان والغليان المتراكم في نفوس الناشئة. باختصار: الدولة بصيغتها وقواعدها الحالية صارت غير مرغوب بها لدى جيل المستقبل.
في غمرة انشغال الحكومة بكيل الاتهامات للتلاميذ المحتجين بخدمة أجندةٍ معينة، ورهان قوى سياسية ومجتمعية على هذه المظاهرات، لمضاعفة منسوب الارتباك، في مشهدٍ عام مرتبك أصلا، أملا في استعادة أمجاد انتفاضة التلاميذ في عام 1984. ضاعت الحقيقة التي تكشف عنها مؤشراتٌ عديدة تنذر بأن سياسة الترقيع؛ أو ما تعرف في السياق المغربي بالبريكولاج، لن تجدي نفعا مع الأجيال التي خرجت للاحتجاج اليوم.
عرفت معظم المظاهرات ترديد شعاراتٍ ذات صلة بالموضوع من قبيل: "العثماني.. ارحل"، و"الشعب يريد إسقاط الساعة" و"الساعة فرنسية.. والمعيشة صومالية"، للدلالة على رفض
تفاعل الرأي العام المغربي مع هذه السابقة؛ في تاريخ الفعل الاحتجاجي بالمغرب، ظل محدودا جدا، مخافة أن يتطوّر النقاش ليكشف جوهر المشكل، لينطرح سؤال المسؤولية تجاه هذا الجيل... قبل أن ينحرف السجال إلى استنكار وصف أحد قياديي حزب العدالة والتنمية التلاميذ المحتجين بأنهم جيل القادوس (أنابيب المجاري)، ويعتذر عن شتيمته هذه، ونعتتهم زعيمة حزب سياسي بـ"الضباع".
ما حدث أمام البرلمان؛ وفي أماكن أخرى في عدة مدن مغربية، من ظهور شعارات كلها إهانة وسب وشتم، مجرد جرس إنذار، ينبّه الجميع إلى أن الأوضاع داخل المجتمع ليست بخير، ومخالفة تماما لما يتم تسويقه على المستوى الرسمي. ويكشف، في الوقت نفسه، عن عمق الأزمة التي تنخر مؤسسات عديدة، عجزت، أو بالأحرى فشلت، في القيام بالأدوار المنوطة بها. وتسائل احتجاجات التلاميذ هذه منظومة التعليم في المغرب، في مؤشر على أن الأعطاب التي تعاقبت الحكومات منذ سنوات على إصلاحها؛ بإقرار برامج وطنية ومخططات استعجالية، في هذا القطاع، لم تجد نفعا، وإنما فاقمت الأوضاع في قطاعٍ تحول قضية وطنية ذات أولوية. وتأتي مؤسسة الأسرة في الدرجة الثانية، من حيث تشطير المسؤوليات عن مآل هذا الجيل الصاعد. فالظاهر أن الأدوار المسنودة إلى هذه المؤسسة تم التخلي عنها تدريجيا، جراء ضغط قوى الحداثة؛ أو ربما فقط صيرورة التحديث، ما تولد عنه تفكيكٌ للبنيات التقليدية المعروفة في المجتمع المغربي، من دون أن يوازي ذلك إنضاج بدائل؛ أي مؤسسات حاضنة للحيلولة محلها.
حاولت الدولة تجاهل كل ما سلف، والتعامل مع احتجاجات التلاميذ على أنها مجرد "لعب عيال"، أو طيش في لحظة عابرة ليافعين، يبحثون عن الشهرة، وتحقيق الذات في زمن هيستريا الميديا وصناعة النجوم في وسائل التواصل الاجتماعي. وقراءة آنية لها نصيب من المقبولية، سرعان ما تبدو سطحية عند إمعان النظر فيما جرى، لنكتشف مدى تراجع خوف هذا الجيل وخشيته من السلطة، إلى حد قدرته على شتم ممثليها وإهانتهم علنا، وارتفاع مستوى العنف اللفظي في خطاب التداول ولغته بين أفراده، ومنسوب الاحتقان والغليان المتراكم في نفوس الناشئة. باختصار: الدولة بصيغتها وقواعدها الحالية صارت غير مرغوب بها لدى جيل المستقبل.
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024