تفتقد الدكتورة أمينة زياني، مثل كثير من الجزائريين، دفء الرسائل الورقية التي كان ساعي البريد يوصلها إليها في الحيّ الجامعي، وما زالت تحتفظ بثلاث منها حتى الآن، بالرغم من طغيان زمن الرسائل الإلكترونية والنصية ووسائل التواصل الاجتماعي.
تقول زياني التي تخصصت في أبحاث الإعلام والمجتمع، إنّ أجمل الرسائل التي تلقتها كانت من أشقائها الثلاثة الأصغر، كتبوها بخطهم الرديء. الأولى جاء فيها: "أختي الكبرى إنّي أقصّ أظافري وأغسل أسناني وأحرص على تنظيم أغراضي كلّ صباح، أخوكِ يونس. نحبّك مينة (أمينة)".
الرسالة الثانية: "أتمنى أن تكوني بألف خير أختي... توحشناك بزاف (اشتقنا إليكِ كثيراً) متى ترجعين إلى البيت، لنلعب ونسهر ونحكي ونضحك؟ لقد أخذت 16 من 20 في مادة الرياضيات في انتظار المواد الأخرى، طبعا أخوك شاطر لكن ينسى ما يحفظه، أتمنى أن تصبحي طبيبة وأفتخر بك أمام أصدقائي".
الرسالة الثالثة: "صباح الخير أختي. انظري للرسومات، لقد رسمتك ورسمت كلّ العائلة لكنّ الرسم ليس جميلاً، في المرة المقبلة ستكون الرسمة أبهى وأحلى بعد أن تهديني علبة أقلام ملونة عندما تعودين من العاصمة الجزائرية، أنا أدرس جيداً وتحسنت في مادة الرياضيات، متى ترجعين؟ توحشّناك بزاف".
هي رسائل من ثلاثة أشقاء موجّهة لشقيقتهم التي تكبرهم بسنوات، إذ اعتادوا مغادرتها البيت في مدينة بالشرق الجزائري وسفرها نحو العاصمة الجزائرية. تقول زياني إنّها لم تكن رحلة سهلة، لكنّ أشقاءها كانوا ينتظرون عودتها بفارغ الصبر محمّلة ببعض الهدايا التي تشتريها لهم مما تدخره من منحتها الجامعية.
هذه الرسائل عمرها الآن 21 سنة كاملة، وما زالت زياني تحتفظ بها في ألبوم صور الذكريات بعدما كانت تنتظرها يومياً في بيت الطالبات الجامعيات بحي الإناث الجامعي في مقاطعة باب الزوار بالعاصمة الجزائرية، كما تقول لـ"العربي الجديد": "هي من أجمل الهدايا، فهي دافئة وصادقة وحقيقية. نبكي معها ونضحك أيضاً، وننتظرها بشغف كبير".
الورق نسج روابط قوية بين الأخوة وبين الأصدقاء، وطّد تلك العلاقة عدد من الرسائل التي كانوا يتبادلونها. فالزياني في سنتها الجامعية الأولى لم تكن عام 1995 تتجاوز السابعة عشرة، وتصل إليها أخبار الأهل شهرياً من خلال هذه الرسائل بالذات، إذ تطمئن على أشقائها، قبل أن يبدؤوا هم أنفسهم بالكتابة إليها في السنوات التالية، خصوصاً أنّ الاتصالات الأرضية كانت مكلفة بالنسبة إلى طالبة جامعية في بداية تكوينها العلمي وبمنحة جامعية تقدر حينها بـ2700 دينار جزائري (57 دولاراً أميركياً في سعر الصرف لعام 1995) تتلقاها كلّ ثلاثة أشهر.
تختم الزياني: "كانت سنوات صعبة عليّ وعلى الطلاب الآتين من المدن الداخلية نحو العاصمة، خصوصاً في سنوات الدم والخوف".
رسائل الطلاب
في الأحياء الجامعية (دُور الطلاب الحكومية) يستذكر كثيرون، كيف كانوا ينتظرون تلك الرسائل البريدية بفارغ الصبر، ومن بينها أوراق محملة بأخبار عادية وأسئلة عن أحوال البيت الجامعي والأصدقاء وأجواء الدراسة وظروفها، ومنها ما هو محمل بالأخبار غير السارة، بالإضافة إلى مختلف المشاكل المستجدة، كما يقول عمار شارفي لـ"العربي الجديد".
يقطن شارفي في مدينة الأغواط التي تبعد عن العاصمة الجزائرية بأكثر من 600 كيلومتر، فيما كانت رسائل أشقائه وأصدقائه بمثابة عزائه الوحيد "لاستكمال دروب الدراسات العليا وتفاصيل الحياة الجامعية الصعبة".
يؤمن كثيرون أنّ الطفرة العلمية والتكنولوجية والتقنية، قصّرت المسافات وخفّفت المسؤوليات وسهّلت التواصل بين الأفراد في المجتمع الواحد وفي الدولة الواحدة وقلصت المسافات بين الدول، لكنّها "لم تتمكن من احتلال مكان تلك اللهفة في استقبال رسالة من أخيك أو أختك وبخط اليد وبإحساس القلب" تقول إيناس عمروش لـ"العربي الجديد" لافتة إلى أنّ "رسائل البريد الإلكتروني والرسائل السريعة بخدمات ماسنجر، وغيرها باعدت كثيراً بين القلوب والنفوس، بالرغم من كلّ إيجابياتها، فهي لا تحمل روح الكلمات الصادقة والمشاعر الفياضة"، على حد تعبيرها.
اقــرأ أيضاً
في كثير من الأحيان، كانت الرسائل تقتصر على بطاقة بريدية عن مدينة أو رسوم وجملة واحدة يتبادلها الأصدقاء والأحبة، في مناسبات الأعياد والأفراح ونهاية السنة، لكنّ كلّ شيء تغير، إذ باتت الصور نفسها تستنسخ وترسل في شكل تهانئ فورية، من دون عناء على حدّ تعبير ياسين فراحي لـ"العربي الجديد" وهو ما يجعلها في نظره "غير صادقة، وتهدف فقط إلى رفع الحرج عن السؤال على الأحبة والأصدقاء خلال مناسبة معينة" بحسب رأيه.
كثيرون، يحنّون لذلك الزمن، وهو ما يجعل البعض يحتفظ برسائل الأصدقاء وزملاء المدرسة، لكنّ الفارق الزمني هو الفيصل بين الرسالة البريدية التي يحملها ساعي البريد إلى أصحابها والرسالة الإلكترونية التي تعبر القارات وتختصر الوقت في ثوانٍ وربما أقل.
يقول المتخصص في علوم الإعلام والاتصال، الباحث، مهدي مخلوفي: "كلاهما أثّر في المجتمع والعصر الذي وُجد فيه. و لعلّ أهم فرق بين العصرين أو بين الرسالتين الورقية والإلكترونية هو المشاعر". يلفت في حديث إلى "العربي الجديد" إلى أنّ "كاتب الرسالة البريدية تجده يستحضر الكلمات ويركز في الكتابة من أجل أن تكون واضحة المبنى والمعنى، حتى تحقق غايتها، ثم ينتظر الردّ بشغف ولهفة من المرسل إليه، على عكس الرسالة الإلكترونية التي قد يكون صاحبها استعار نصاً منقولاً وعدّل في بعض الكلمات وضغط على زر: أرسل". بالإضافة إلى ذلك، يضيف مخلوفي أنّ في إمكان الشخص نفسه أن يرسل الرسالة عينها إلى عدة أشخاص في لحظة واحدة.
وهكذا، وبينما يعتبر كثيرون أنّ الرسائل الإلكترونية تحقق أهدافاً أكبر بأقل جهد ووقت، فإنّ معظم الأشخاص يحنّون إلى ذلك الزمن الجميل الذي يحفظ دفء المشاعر خصوصاً، إذ بات معظم الناس يتحدثون عن مشاغلهم وتحدياتهم ومشاكلهم عبر فضاء افتراضي، بعيداً عن الواقع المادي، بحسب الأستاذ في كلية علم الاجتماع بجامعة "قسنطينة" محمد طرافي. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ ضغوط الحياة اليومية ومشاكل انتظار السكن والنقل والازدحام المروري ومصاريف يومياتهم، شغلت الجزائريين عن الانتباه لـ"طعم العلاقات الإنسانية".
تقول زياني التي تخصصت في أبحاث الإعلام والمجتمع، إنّ أجمل الرسائل التي تلقتها كانت من أشقائها الثلاثة الأصغر، كتبوها بخطهم الرديء. الأولى جاء فيها: "أختي الكبرى إنّي أقصّ أظافري وأغسل أسناني وأحرص على تنظيم أغراضي كلّ صباح، أخوكِ يونس. نحبّك مينة (أمينة)".
الرسالة الثانية: "أتمنى أن تكوني بألف خير أختي... توحشناك بزاف (اشتقنا إليكِ كثيراً) متى ترجعين إلى البيت، لنلعب ونسهر ونحكي ونضحك؟ لقد أخذت 16 من 20 في مادة الرياضيات في انتظار المواد الأخرى، طبعا أخوك شاطر لكن ينسى ما يحفظه، أتمنى أن تصبحي طبيبة وأفتخر بك أمام أصدقائي".
الرسالة الثالثة: "صباح الخير أختي. انظري للرسومات، لقد رسمتك ورسمت كلّ العائلة لكنّ الرسم ليس جميلاً، في المرة المقبلة ستكون الرسمة أبهى وأحلى بعد أن تهديني علبة أقلام ملونة عندما تعودين من العاصمة الجزائرية، أنا أدرس جيداً وتحسنت في مادة الرياضيات، متى ترجعين؟ توحشّناك بزاف".
هي رسائل من ثلاثة أشقاء موجّهة لشقيقتهم التي تكبرهم بسنوات، إذ اعتادوا مغادرتها البيت في مدينة بالشرق الجزائري وسفرها نحو العاصمة الجزائرية. تقول زياني إنّها لم تكن رحلة سهلة، لكنّ أشقاءها كانوا ينتظرون عودتها بفارغ الصبر محمّلة ببعض الهدايا التي تشتريها لهم مما تدخره من منحتها الجامعية.
هذه الرسائل عمرها الآن 21 سنة كاملة، وما زالت زياني تحتفظ بها في ألبوم صور الذكريات بعدما كانت تنتظرها يومياً في بيت الطالبات الجامعيات بحي الإناث الجامعي في مقاطعة باب الزوار بالعاصمة الجزائرية، كما تقول لـ"العربي الجديد": "هي من أجمل الهدايا، فهي دافئة وصادقة وحقيقية. نبكي معها ونضحك أيضاً، وننتظرها بشغف كبير".
الورق نسج روابط قوية بين الأخوة وبين الأصدقاء، وطّد تلك العلاقة عدد من الرسائل التي كانوا يتبادلونها. فالزياني في سنتها الجامعية الأولى لم تكن عام 1995 تتجاوز السابعة عشرة، وتصل إليها أخبار الأهل شهرياً من خلال هذه الرسائل بالذات، إذ تطمئن على أشقائها، قبل أن يبدؤوا هم أنفسهم بالكتابة إليها في السنوات التالية، خصوصاً أنّ الاتصالات الأرضية كانت مكلفة بالنسبة إلى طالبة جامعية في بداية تكوينها العلمي وبمنحة جامعية تقدر حينها بـ2700 دينار جزائري (57 دولاراً أميركياً في سعر الصرف لعام 1995) تتلقاها كلّ ثلاثة أشهر.
تختم الزياني: "كانت سنوات صعبة عليّ وعلى الطلاب الآتين من المدن الداخلية نحو العاصمة، خصوصاً في سنوات الدم والخوف".
رسائل الطلاب
في الأحياء الجامعية (دُور الطلاب الحكومية) يستذكر كثيرون، كيف كانوا ينتظرون تلك الرسائل البريدية بفارغ الصبر، ومن بينها أوراق محملة بأخبار عادية وأسئلة عن أحوال البيت الجامعي والأصدقاء وأجواء الدراسة وظروفها، ومنها ما هو محمل بالأخبار غير السارة، بالإضافة إلى مختلف المشاكل المستجدة، كما يقول عمار شارفي لـ"العربي الجديد".
يقطن شارفي في مدينة الأغواط التي تبعد عن العاصمة الجزائرية بأكثر من 600 كيلومتر، فيما كانت رسائل أشقائه وأصدقائه بمثابة عزائه الوحيد "لاستكمال دروب الدراسات العليا وتفاصيل الحياة الجامعية الصعبة".
يؤمن كثيرون أنّ الطفرة العلمية والتكنولوجية والتقنية، قصّرت المسافات وخفّفت المسؤوليات وسهّلت التواصل بين الأفراد في المجتمع الواحد وفي الدولة الواحدة وقلصت المسافات بين الدول، لكنّها "لم تتمكن من احتلال مكان تلك اللهفة في استقبال رسالة من أخيك أو أختك وبخط اليد وبإحساس القلب" تقول إيناس عمروش لـ"العربي الجديد" لافتة إلى أنّ "رسائل البريد الإلكتروني والرسائل السريعة بخدمات ماسنجر، وغيرها باعدت كثيراً بين القلوب والنفوس، بالرغم من كلّ إيجابياتها، فهي لا تحمل روح الكلمات الصادقة والمشاعر الفياضة"، على حد تعبيرها.
كثيرون، يحنّون لذلك الزمن، وهو ما يجعل البعض يحتفظ برسائل الأصدقاء وزملاء المدرسة، لكنّ الفارق الزمني هو الفيصل بين الرسالة البريدية التي يحملها ساعي البريد إلى أصحابها والرسالة الإلكترونية التي تعبر القارات وتختصر الوقت في ثوانٍ وربما أقل.
يقول المتخصص في علوم الإعلام والاتصال، الباحث، مهدي مخلوفي: "كلاهما أثّر في المجتمع والعصر الذي وُجد فيه. و لعلّ أهم فرق بين العصرين أو بين الرسالتين الورقية والإلكترونية هو المشاعر". يلفت في حديث إلى "العربي الجديد" إلى أنّ "كاتب الرسالة البريدية تجده يستحضر الكلمات ويركز في الكتابة من أجل أن تكون واضحة المبنى والمعنى، حتى تحقق غايتها، ثم ينتظر الردّ بشغف ولهفة من المرسل إليه، على عكس الرسالة الإلكترونية التي قد يكون صاحبها استعار نصاً منقولاً وعدّل في بعض الكلمات وضغط على زر: أرسل". بالإضافة إلى ذلك، يضيف مخلوفي أنّ في إمكان الشخص نفسه أن يرسل الرسالة عينها إلى عدة أشخاص في لحظة واحدة.
وهكذا، وبينما يعتبر كثيرون أنّ الرسائل الإلكترونية تحقق أهدافاً أكبر بأقل جهد ووقت، فإنّ معظم الأشخاص يحنّون إلى ذلك الزمن الجميل الذي يحفظ دفء المشاعر خصوصاً، إذ بات معظم الناس يتحدثون عن مشاغلهم وتحدياتهم ومشاكلهم عبر فضاء افتراضي، بعيداً عن الواقع المادي، بحسب الأستاذ في كلية علم الاجتماع بجامعة "قسنطينة" محمد طرافي. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ ضغوط الحياة اليومية ومشاكل انتظار السكن والنقل والازدحام المروري ومصاريف يومياتهم، شغلت الجزائريين عن الانتباه لـ"طعم العلاقات الإنسانية".