من المعروف أن الدول قد تخفض قيمة عملاتها الوطنية، إما لزيادة صادراتها الخارجية، أو لتنشيط السياحة، أو بهدف جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، أو الحد من هروب الاستثمارات وتهريب الأموال، أو إعادة الحياة لموارد النقد الأجنبي بشكل عام.
وقد يحدث خفض لقيمة العملات الوطنية في حال ما إذا شهدت البلاد قلاقل سياسية وأمنية أثرت سلباً على احتياطياتها من النقد الأجنبي ومواردها الدولارية وضغطت بشدة على سوق الصرف.
وخفض العملات ليس كله شرا، وليس كله خيرا، وعلى سبيل المثال فإن للخفض نتائج تنعكس إيجابياً على الاقتصاديات الوطنية، حيث يساهم الخفض في جذب استثمارات خارجية كما قلت، وهذه الاستثمارات تلعب دورا مهما في زيادة الإنتاج، وتوفير فرص العمل، والحد من البطالة، وتقليص فاتورة الواردات، وزيادة الصادرات، وتخفيف الضغوط عن سوق الصرف، والأهم المساهمة في زيادة معدل النمو الاقتصادي.
وفي المقابل فإن خفض قيمة العملة له مخاطر شديدة، فقد يؤدي لتآكل العملات الوطنية، وحدوث موجات تضخمية في الأسعار خاصة المستوردة، وهروب المودعين من البنوك المحلية نحو البنوك الأجنبية، وزيادة الدين العام.
وهناك دول عربية كثيرة خفضت قيمة عملاتها بنسب كثيرة تزيد عن 100% لأسباب محلية بحتة تتعلق بالوضع الأمني والسياسي، منها اليمن وسورية وليبيا والجزائر والسودان.
لكن هل هذه الحالة تنطبق على مصر؟ وبمعنى أدق: هل إجراء مزيد من الخفض للجنيه المصري يمكن أن يترتب عليه جذب استثمارات خارجية وتنشيط السياحة والصادرات؟
لا أظن، والدليل على ذلك أن مصر خفضت قيمة عملتها عدة مرات خلال الثلاث سنوات الماضية بنسبة تصل لأكثر من 25% في السوق الرسمية ونحو 60% في السوق غير الرسمية، كما خفضت سعر الجنيه 14.5% دفعة واحدة يوم 24 مارس/ آذار الماضي، ولم نشهد قفزة في إيرادات النقد الأجنبي.
ورغم الخفض الأخير في العملة المصرية الذي يعد الأكبر في تاريخ العملة المصرية، إلا أننا لم نر تحسناً ملحوظاً في موارد النقد الأجنبي، فقطاع السياحة يواصل تدهوره، خاصة عقب إسقاط الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
والصادرات خسرت أكثر من 5 مليارات دولار من إيراداتها في عام 2015، وأكثر من 10 مليارات دولار منذ قيام ثورة 25 يناير 2011 وما تبعها من تخفيضات متواصلة للعملة المحلية.
وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة رغم عقد مؤتمر شرم الشيخ في مارس/آذار 2015.
فخفض قيمة العملة ليس هو العامل الأبرز في تنشيط الصادرات المصرية مثلاً، فهناك عوامل أخرى تعرقل المصدرين ويجب التعامل معها بشكل عاجل؛ منها أزمات الطاقة ونقص الغاز المخصص للمصانع خاصة كثيفة الطاقة، وشح الدولار، وفقدان أسواق خارجية على رأسها ليبيا واليمن وسورية والعراق وغيرها.
وبالتالي فإنه حتى لو تراجعت قيمة الجنيه المصري فإن أثره لن يكون كبيراً على إيرادات النقد الأجنبي، خاصة الصادرات التي تعد المصدر الأول لهذه الموارد، بل أثره السريع سيكون في شكل زيادات قياسية في أسعار السلع، خاصة أن مصر تستورد نحو 70 % من احتياجاتها من الخارج.
لكن ما مناسبة الحديث عن الجنيه المصري والصادرات؟
أمس خرجت علينا وكالة رويترز بتصريح لافت لمحافظ البنك المركزي المصري طارق عامر يلمح فيه إلى خفض جديد في قيمة العملة المحلية، الوكالة أسندت إلى عامر قوله لثلاث صحف مصرية إن الحفاظ على سعر غير حقيقي للجنيه كان خطأ، وإن استهداف سعر العملة بغرض الحفاظ عليه كان خطأ فادحاً وكلّف الدولة مليارات الدولارات في السنوات الخمس الماضية، وإنه مستعد لأخذ القرارات الصحيحة وتحمل نتائجها.
كما نسبت رويترز لمحافظ البنك المركزي المصري قوله إن انخفاض الجنيه له إيجابيات لتنمية الصادرات، وإنه لن يفرح باستقرار سعر الصرف والمصانع متوقفة.
كثيرون، وأنا منهم، تعاملوا مع هذه التصريحات بجدية شديدة خاصة وأنه لم يصدر نفي لها من مكتب طارق عامر أو مسؤول بالبنك المركزي المصري، والكثيرون أيضا تعاملوا مع هذا التلميح على أنه يشي بقرب إجراء البنك المركزي خفضا جديدا للعملة المحلية، في حين تعامل البعض مع التصريحات على أنها مجموعة رسائل.
لكن ما الرسائل التي يود محافظ البنك المركزي المصري إرسالها للأسواق المحلية والخارجية هذه الأيام من خلال تصريحاته المهمة والمثيرة للجدل، هل يوجه المحافظ رسائله للمقرضين الجدد وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، أم للمصدرين والمصنعين؟ أم للسوق والمواطن بالاستعداد لموجة جديدة من ارتفاع الأسعار خاصة مع خفض جديد للأسعار وتطبيق قانون القيمة المضافة؟
بمعنى آخر: هل ستخفض مصر عملتها لزيادة الصادرات أم استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي؟ وهل يمكن أن نضع التصريحات المنسوبة لمحافظ البنك في سياق إرسال رسائل للصندوق تقول "ها نحن نستجيب لطلباتكم بخفض قيمة العملة، وعليكم الإفراج بسرعة عن القرض الذي طلبته مصر والبالغة قيمته نحو 5 مليارات دولار؟".