كأنما لم تعد تحتمل. هل أثقلتها الهموم... من غرناطة إلى القدس والقاهرة؟ كلا لم تثقلها الهموم ولم يتسلّل إليها أيُ يأس. كانت تحمل شراع الأمل، وتغني أنشودة التفاؤل دوماً. مهما انسدل الهم وطال تلكؤ الفجر الذي ما زال منتظراً، كانت رضوى عاشور تشدّ على أيدي كل مَن يجاورها، وكل مَن يقرأ حروفها، وتدعوهم للإيمان بـ"الامل العنيد" والتسلّح به. هل كانت تقول لنا ذلك في حين أن داخلها المُتعب بالتاريخ والحاضر كان قد أنهك؟
حاولت رضوى أن تستوعب ما يصير في لحظتنا القاسية والممتدة. قاومت، اعترضت، رفضت، ثم غادرت. ما بين الوجع الاندلسي العتيق وشقيقه المقدسي الطازج، امتد درب الآلام واصلاً بين مدن العرب وحواضرهم النازفة. كأن كل منها التهم شيئاً ما من رضوى، وقلبها ووجدانها. على رأس قائمة الحواضر التي أنَّ لها وعليها الفؤاد الرهيف للقاصّة والكاتبة والروائية كانت بغداد ودمشق تتربعان... بحزن. كلتاهما تلتحف بالسواد والبكاء. قاهرة رضوى هي الأخرى ليست بأحسن حالاً. عندما أشرقت فيها ثورة الميدان واذهلت العالم، امتدّ عمر رضوى، وعادت صبية تركض في الشوارع وتركل الحصى بجذل. في لحظة الارتقاء المصري والعربي تلك، قالت رضوى: "الأمل العنيد هو سلاحنا في معركتنا التي نخوضها لتحقيق أهداف الثورة". بعدها اصطرعت الارياح في كل الاتجاهات وهبطت الحيرة، لكن رضوى بقيت سنديانة. ما كان لتكاثر الهموم أن يحاصر مَن التحق بأدب المقاومة مبكراً وكتبت عنه أجمل ما كُتب.
فمبكراً، ومنذ أواخر السبعينيات، اندفعت رضوى في "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، وهناك التقت غسان كنفاني وغاصت في أدبه وانتاجه وقدمته بطريقة "أخرى". ثم تابعت وانتشرت في طرق وروايات ونقديات ستأخذنا معها عدة عقود، بدءاً بـ"الرحلة" عام 1983، وفيها نرافق طالبة مصرية في أميركا، وصولاً الى "الطنطورية" عام 2010. بينهما تمتد قائمة طويلة من الابداع، وتتوسطه رائعتها "ثلاثية غرناطة"، التي نكأت بها جرحاً تاريخياً لا يريد أن يلتئم في وجدان العرب، ونالت عليها، وسواها، جوائز عديدة. ظل التاريخ ودرسه القاسي حاضراً، وبعناد كما أملها، في نص رضوى. كان هناك عندما تأملت في قاهرة محمد علي، الذي أرادها أن تكون "قطعة من أوروبا"، وكتبت عن تاريخ مرتبك لمدينة بديعة التنوّع آنذاك.
نقد رضوى نافس نصها الروائي والقصصي، وتزاحما على اقتناص ما تبقى من وقت أنهكته الانشغالات. وفيه انحازت رضوى بلا هوادة للهمّ الإنساني، ولتحرّر المظلومين، وواقفة كمسلّة فرعونية ثابتة إلى جانب الكشف عن آداب المقهورين والاحتفاء بها، ودعمها بالنقد الصارم. ولأنها كذلك، وجدناها ترحل إلى غرب القارة السمراء في "التابع ينهض: الرواية في غرب أفريقيا"، مبكراً عام 1980. كما خسرنا لأن رضوى لم تعاود الرحلة ثانية في حقبة لاحقة وهي مسلحة بأدوات وخبرات نقدية أعمق وأوسع.
العام الماضي، أصدرت كتاب الوداع: "أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية". فيه نضحك لضحكها، نحزن لحزنها، نجزع لمرضها ولوداعها المركون بين السطور. نثور مع ثورتها، ونفرح معها بربيع عربي سوف يكتمل لأن رضوى طبعت على جبينه قبلة "الأمل العنيد".