في تلك الأيام، كانت أغنية الفنان أحمد قعبور الشهيرة "بيروت يا بيروت" تحضر دائماً كلما أطلّ الشهر الكريم حتى صارت لازمته. بيروت القصة في صندوق الفرجة، والعروسة، وشهر الصوم والأعياد، والتوت والعنّاب اللذان يزيّنان الأبواب. شجرتان لم يعرفهما جيلنا، جيل الثمانينات، الذي سكن البنايات، بل جيل الذين عاشوا في منازل أرضية تحيطها الأشجار في الخمسينات وما قبلها. لكن جيلنا أحبّ دوماً أن يتخيّل شهر الصوم من خلال هذه الصور التي تقدمّها الأغنية عن مدينة أخرى أحبّها من دون أن يعرفها. والأحلام كانت أقصى ما يستطيعه هذا الجيل الذي خطفت الحرب الأهلية أحلى أيام حياته.
ولم تكن أغنية "علّوا البيارق" التي لحقتها بعد ذلك منفصلة عن هذا السياق. أغنية الأعلام الملوّنة بأيدي الأطفال. الأعلام التي لم ترتبط يوماً بالأعلام الحزبية الكثيرة التي كان يعلّقها كل من تمكّن من احتلال عمود من عواميد المدينة.
وأجمل ما في هاتين الأغنيتين، وغيرهما من الأغاني مثل أغنية "سعداء معكم" التي تسأل فيها مجموعة أطفال طفلاً من بينهم عن أمه التي ذهبت ولم تعد، أنها كانت بأصوات أطفال "دار الأيتام الإسلامية". كان جميلاً وحقيقياً، وما زال، صوت هؤلاء الأطفال الذين كانوا من أعمارنا. وكانت هذه الأغاني مساحة عاطفية تجمعنا بهم نحن سكان هذه المدينة، وهم الذين خسّرتهم الحياة أحد والديهما أو كليهما. كنا نرى بيروت من عيونهم.
وفي ذلك الزمن كانت تحضر فرق الموالد النبوية بعد الإفطار وكانت سهراتها بمثابة عرس شعبي. لم تكن يوماً حفلاً دينياً بالمعنى المعروف. يأتي منشدون بدشداشاتهم وقلنسواتهم البيضاء، يجلسون في حلقة نصف دائرية يقرعون الطبول وينشدون ما تيسّر من المدائح على حب الرسول.
حتى الصوم نفسه لم يكن فرضاً دينياً فحسب بل كان مساحة اجتماعية في ما هو لمّة عائلية حول مائدة الإفطار، وطبلة مسحّراتي أسمر يقضي معظم عامه في المقهى وفي شهر الصوم يأخذ المهمّة الشهيرة على عاتقه فيوقظ أهل المنطقة ليلاً ويفوز ببضع ليرات في أول أيام العيد. نفيق على صوته ونركض إلى الفرن حاملين صينية الزعتر والجبن العكاوي وفنجان زيت الزيتون الذي نمسحه على العجين المرقوق ونوزّع الجبن عليه بعد أن ننقشه بأصابعنا كي نصنع منه مناقيش السحور.
وكان وقت الإفطار لافتاً في تلك الأيام من الحرب، بعدما صار مساحةً مستقطعة لوقف إطلاق النار بين المتقاتلين، فلا يُسمع فيه إلا صوت الآذان وقرقعة الملاعق فوق الصحون. لم يكن شهر رمضان أبداً مناسبة دينية. كان مجموعة من اليوميات الحلوة نضيفها إلى أرشيف طفولتنا الصغير في تلك الأيام القاسية.
أما عيد الفطر الذي يلي شهر الصوم، فقصّة أخرى.