الذاكرة والخيال هما ركيزة الشاعرة اللبنانية رنيم ضاهر(1978) في مجموعتها الثانية التي صدرت حديثاً عن دار "الغاوون". ذاكرةٌ لاستثمار عناصر حكايات طفولية، وخيالٌ مجنّح يسمح لصاحبته بإسقاط صورٍ مدهشة، هي أشبه بقفزات ماهرة ومدوخة. ولعل هذا ما يفسّر عنوان المجموعة:"أتثاءبُ في مخيّلة قطة".
"ذات الرداء الأحمر/ كبرت في مخيلتي/ حتى صارت ذئباً/ التهم جدّتي". قصيدة تستحضر ضاهر من خلالها الحكاية الشهيرة، التي تشكّل واحدة من "الأساسيات" في الموروث الطفولي. لكن الشاعرة لم تستخدم هذه الحكاية كما هي لتشكيل قصيدتها، وإنما كمصدرٍ خام أعادت صياغته بطريقةٍ مثيرة تفقد "ليلى" فيها براءتها.
هكذا تعمل ضاهر في جميع نصوصها، عبر إخضاع ذاكرتها الطفولية لخيالها الخصب ورؤيتها القاتمة والناضجة لعالمنا.
بعبارة أخرى، استخدمت الشاعرة الطفولة كمِقْفَزٍ لبلوغ فضاءٍ أوسع، يفيض بالتماعات ذهنية تعبِّر بطريقةٍ فريدة عن قلقها وهواجسها وأسئلتها الفادحة حول ما يدور على هامش الحياة: "تأمّلَتْ بومةٌ نفسها/ مُنتصفَ الليل/ انتحرتْ/ بقيت فئران الحقل/ تخرج حتى ساعة متأخّرة/ من أساور جدّتي".
وفي جميع قصائد المجموعة، تفلت الصور الشعرية من شباك العقلانية، فتكسب حرية كبيرة في الحركة والمناورة من دون أن تقع أبداً في المجانية أو تفقد بوصلتها: "وجه الشبه/ بين القلادة والشمس/ دائرة/ صفْر يتباهى/ بكسله القديم/ مهما نالت الدنيا/ علاماتٍ متفوّقة/ ستعود إلى نقطة الصّفر".
في معرض تقديمه للمجموعة، وصف الشاعر اللبناني وديع سعادة ضاهر بـ"طفلة الشعر" التي "توصل الطفولة بالشيخوخة بكلمات خاطفة وتجمع النقيضين، الولادة والموت، وكأنها تعبر الطريق كلها بقفزة واحدة". وللتعريف بها، لجأ إلى قصيدة من مجموعتها تقول فيها: "رغم صغر سني/ أستطيع سماع/ أجنحة ملائكة/ تجرّ أرواحاً/ إلى الآخرة".
باختصار، تستخرج ضاهر من بئر الطفولة تفاصيل وقصصاً كثيرة تطوّعها لتكون إدراكاً جديداً للعالم. ومن هذه العناصر نسجت 88 قصيدة قصيرة، لا عناوين لها بل أرقام، فبدت وكأنها قصيدة واحدة تعبرُ بنا إلى نهايات الأشياء ضمن سوداوية لافتة، لا تلطّفها سوى الصور السورّيالية المسيّرة داخل كل نص: "وُلِدَتْ/ من لعابِ رجلٍ قذر/ تبيع العصارات/ مُقابل حمّامِ أمطارٍ باردة/ قدماها عكّازان من حطب/ ولديها فوبيا الرمال".