رواية غوركي التي أهملها المترجمون

20 مارس 2015
مكسيم غوركي قارئاً مسرحيته "أبناء الشمس" (1905)، إليا ريبين
+ الخط -

حين كتب مكسيم غوركي (1868 ـ 1936)، رواية "بول السيئ الطالع" (1894)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن دار Le temps des Cerises الباريسية، كان في سن السادسة والعشرين، وبالتالي لم يكن قد تحرر إلا منذ فترة قصيرة من حياةٍ شاقّة سرد تفاصيلها في "طفولة" (1913)، و"حين كنت أكسب قوتي" (1916).

ولفهم هذه الرواية التي استوحى غوركي بعض عناصرها من سيرته الذاتية، وأهملها المترجمون طويلاً لصالح إنتاجه اللاحق، لا بد من وقفة سريعة عند المرحلة الأولى من حياته.

خضع غوركي في طفولته لسلطة جدّه القاسي الذي كان يضربه غالباً، وبدلاً من الذهاب إلى المدرسة الابتدائية، أُجبِر على العمل منذ سن التاسعة. بعد ذلك، غادر عائلته ليصبح خبّازاً ثم بحّاراً، قبل أن يبدأ تجواله في روسيا، سيراً على الأقدام، فيعبر آلاف الكيلومترات بحثاً عن "جنة" لن يعثر عليها.

لكن ترحاله سيسمح له بمعاشرة متشرّدين كثر أداروا، مثله، ظهرهم لمشاكل أو مآسٍ شخصية وانطلقوا على الطرقات على أمل الاستقرار في مكانٍ يتمكّنون فيه من إعادة ابتكار حياتهم. مغامرات سيستعيدها غوركي لاحقاً في نصوص سردية تتمتّع بلغةٍ واقعية غنية ومثيرة ستلفت بسرعة الانتباه إليه.

ومنذ صباه، ولع غوركي بالقراءة. ففي مطلع مراهقته، شكّل الأدب مرادفاً للفرار والجمال، وضرورة لموازنة الحياة الفقيرة والدنيئة والعنيفة التي كانت من نصيبه ونصيب معظم الناس حوله.

وسواء كان جيداً أم ركيكاً، كشف هذا الأدب له إمكانية أن تكون الحياة شيئاً آخر، يختلف عمّا كان يختبره كل يوم، فأصبح زاداً جوهرياً سعى غوركي إلى تقاسمه باستمرار مع مَن كان يحيط به، إذ كان يتنقل دائماً مع مجموعة كتب في بقجته. وفي "حين كنت أكسب قوتي"، يروي كيف كان يقرأ بحماسة الروايات التي تعجبه إلى رفاقه في العمل. وحتى في الروايات الرديئة، كان يعثر على مقاطع تثير اهتمام المستمعين إلى قراءاته. وفي رواية "رب العمل"، ثمة عامل في مخبز يشبهه كثيراً ويقرأ لزملائه نصوصاً مختلفة خلال فترات الاستراحة لتثقيفهم.

إذن، رأى غوركي باكراً في الأدب وسيلة تحرّر، لارتقائه بالإنسان وتنميته التطلّعات إلى الخير، حتى لدى الأكثر قسوةً. ولهذا، احتقر ورفض لاحقاً الأدب الذي بدا له مجرّد تسلية عقيمة وتافهة تساهم في إبقاء الناس داخل جهلهم. وبالتالي، كان مصير الأدب والسياسة أن يلتقيا لديه، حتى أنه فكّر، بعد نجاحاته الأدبية الأولى، أن يكرّس نفسه للسياسة فقط التي كانت تبدو له الوسيلة الأفضل لتغيير العالم، قبل أن يقتنع أنه يمكن للاثنين أن يسيرا جنباً إلى جنب. وطوال حياته، سيجهد في جعل الأدب والسياسة يخدمان الأهداف ذاتها.

"بول السيئ الطالع"، هي رواية من مرحلة إبداع غوركي الأولى التي كتب فيها عدداً كبيراً من القصص والحكايات؛ لكنها ليست عملاً أدبياً لمبتدئ. فحين كتبها، كان قد تأمّل كثيراً في الأدب وتعلّم أشياءً كثيرة، منها أن النبرة العنيفة لا تأتي دائماً بأفضل نتيجة، وأنه من غير المجدي غالباً الاستسلام لغنى قاموسنا الشخصي.

وبالتالي، كان قد تجاوز جاذبية المفعول الآني لهذا الأسلوب الذي كان يرضيه في نصوصه الأولى. صحيح أنه استمر في فضح حالة روسيا القيصرية، لكنه في الوقت ذاته أراد الذهاب في نصوصه الجديدة إلى أبعد ممّا سبقها، وكتابة أعمالٍ أدبية تعبّر عن الحياة في عمقها وتناقضاتها.

وفي هذا السياق، رأى في الأدب وسيلة لكشف، من دون تجميل، الواقع وما يمكن أن يتحلّى به من جمالٍ أو بشاعة. عدو أولئك الذين كانوا يعتقدون أن "الفقير يبقى دائماً فقيراً"، وفقاً لعبارة كانت رائجة آنذاك في روسيا، وضع غوركي أملاً كبيراً في المستقبل وسعى جاهداً إلى إخراج الناس من عاداتهم القديمة، وكتب لتسريع هذا العبور من واقعٍ شنيع إلى آخر ورديّ سمح فنّه له بتجسيده. وستطبع هذه الرغبة في التغيير جميع أعماله اللاحقة، الأدبية والسياسية، و"بول السيئ الطالع"، هي من دون شك إحدى المعالم الأولى على طريق أعماله الكبرى التي ستجلب بسرعة له الشهرة في روسيا والعالم أجمع.

في هذه الرواية، نعثر على الموقف الأساسي لغوركي من القدر المعذّب للبشر. فشخصية بول تبدو ضحية تشبه كثيراً ضحايا أخرى تقطن أعمال الكاتب، مثل أوزي كليمكوف، بطل رواية "حياة بلا جدوى"، الذي يصبح مخبراً للشرطة وينتهي به الأمر منتحراً.

وبالنسبة إلى هذه الشخصية، كما بالنسبة إلى شخصيات غوركي الأخرى، المشكلة الرئيسية هي في معرفة إن كان ثمة سبيل للخروج من الفخ الذي تتخبّط فيه بسبب وضعها الاجتماعي الأولي، وإن كانت ستتمكن من سلوكه. وبالتالي، ثمة مقاربة لقدرة كل شخصية على فهم ذاتها وما عليها أن تفعله لتحقيق نفسها.

وكطفلٍ لقيط تبنّاه دَرَكي نزيه لكن محدود الذهن، سيلاقي بول صعوبة في الاندماج بالمجتمع الذي لن يوفّر له سوى عملٍ لدى إسكافي، حيث سيختبر المصير المقيت للمبتدئين في الصنعة. لكن في العشرين من عمره، سيغيّر لقاؤه بالشابة ناتالي حياته، إذ تمثّل ما يتطلّع إليه منذ زمن طويل، وتتحلى بنضارة تغريه، وتشكّل امرأةً يرفض أن يصدّق ما يسمعه عنها في عمله، بأنها "عدوّ الرجل".

بسيطٌ لا تنقصه الشجاعة لمواجهة الحياة، لكن تنقصه الكلمات الضرورية لفرض نفسه. فبنزاهة الوضعاء، يعتقد أنه، بمنح ناتالي عمله ومعاشه وحبه، ستقبل بالعيش معه، غير مدرك أنها ستكون مأساته. فهذه الشابة تبيع جسدها لمن يملكون المال والمناصب ولا تسائل معاملتهم السيئة لها، بل تسعى فقط إلى تجنُّب أن تكون دائماً ضحيتهم. وبما أنها مستعبَدة منهم باستمرار، ستنتشي باستعباد رجل مثل بول، ما سيؤدّي في النهاية إلى صدام بينهما تخرج ناتالي منه خاسرةً لامتناعها عن تحسين وضعها واقتناعها به.

إنها إذاً رواية فشلٍ، لكن في ظاهرها فقط، لأن ما تكشفه، في غزارة الملاحظات والحالات والشخصيات فيها، هو قوة الحياة التي يشكّل غوركي أحد أهم منشديها. فصحيح أن بول لم يستطع ابتكار استراتيجية لإخراج ناتالي من عاداتها القديمة، وصحيح أن ناتالي اختارت السهولة حتى النهاية، لكن علاقتهما كانت على وشك أخذ وجهة أخرى لو تأمّن لهما شيءٌ زهيد، شخصٌ له تأثيرٌ سعيد على قصتهما!

وبالتالي، تخبُّطهما في العزلة، داخل الأفكار المتعارف عليها ومحيطٍ يقبل قسوة الحياة، هو صورة لروسيا عند نهاية القرن التاسع عشر، ولأبنائها الذين كانوا ينتظرون أن تفتح الحركة العمالية أفقاً أمامهم. وعام 1905، ستقتحم هذه الحركة الساحة الاجتماعية والسياسية، مخلّفةً صدمة سنستشعر هزّتها بقوة في روائع غوركي اللاحقة، مثل "حياة بلا جدوى" و"الأم" و"دار أرتامونوف"، وخصوصاً "حياة كليم سانغين".

دلالات