أعترف أنني أرتبك كثيراً وأتعرّق، لمجرّد أن يطلب منّي أحدهم التوقيع على كتابٍ من كتبي له. أحاول أن أتهرّب، وأُرجئ ذلك إلى إشعارٍ آخر، أطلب منه أن يكون ذلك في حفل التوقيع، أقول له أحضر الكتاب معك إلى حفل التوقيع وسأكتب لك كثيراً من الجمل الرائعة لأنني سأضمن حضورك البهي إلى الحفل. لكني لا أقوم بعمل حفلاتِ توقيع، أبداً.
حدث الأمر عندما كنت أتجوّل ذات مساء في وسط البلد، كثيراً ما أذهب إلى سوق الخردة والأدوات المستعملة. وعلى امتداد الشارع المحاذي لسقف السيل، توجد عشرات البسطات التي يجلس إليها الباعة.
كانت هناك أشياء غريبة لا يربطها ببعضها البعض أي شيء، أشياء تثير الأسئلة والحيرة بداخلك وأنت تقف لتتمعّن فيها، يحصلون عليها من حاويات نفايات المناطق الثرية وجوانب الطرق واللصوص، أيقونات وتحف قديمة لكنها مهشّمة، أقراص سوداء قديمة لعبد الوهاب وأم كلثوم ولا تدري إن كانت تعمل أم لا، لا شيء مضمونٌ هنا، البائع نفسه يغضب إن وجّهت إليه ذلك السؤال، يقول لك لا أدري.
بطاريات صغيرة خرجت معطوبة من تحت أسنان أحدهم. مسطرة معدنية أنيقة لكنها مُتّسخة وبلا أرقام في الغالب. إطار مهترئ من الخشب الجيد لصورةٍ بحجم كفّ اليد، وأحيانا تجد صورة بالأبيض والأسود بداخله. ساعة من طراز قديم مهشمٌ نصفها، عليك أن تكمل بقية الأرقام في رأسك لتخمّن كم الوقت، ريموت تلفزيون بدون الزّر رقم ستة، ولا أدري إن كانت له علاقة برقابة الوالدين أم لا. دفتر صغير أنيق لكنّ نصفه ممتلئ بعبارة واحدة مكررة؛ أنا خاسر أنا خاسر...، كعلاجٍ نفسي ربما. وأخيراً رواية من القطع المتوسّط.
أمسكت الرواية بطبيعة الحال، لم يكن قد مرّ عام على صدورها، لكنّ غلافها باهتٌ جدّاً وأوراقها مُصفرّة، كما لو أنّ الخريف قد طاولها أيضاً.
ما هالني أني قرأتُ إهداءً طويلاً على الصفحة الأولى بخطِّ يد المؤلف، اتّضح لي حجم السعادة الغامرة والإسهاب في كتابةِ جمل الإهداء إلى شخصٍ ما، وقد ذيّل المؤلّف إهداءه بتوقيعٍ لطيف وتأريخ باليوم والساعة. لقد شعرت بالسعادة المُضمرة في جمل الإهداء، كما لو أنها باقة من الورود المنتقاة بعناية ومقدمة بحبٍ لأحدهم، يقول الإهداء؛ إلى الرائع فلان الفلاني، القامة النقدية العالية، أضع بين يدَيكُم كتابي هذا، وكلّي خجل من شخصكم الكريم - كتب شخصكم بميم الجماعة وأكمل -: إنني أتطلّع إلى رأيٍ سديدٍ منكم، ولو بكلمةٍ واحدة، كلمة واحدة تكفيني، فيا ليتكم تُدركون، عندئذٍ، وقعها العميق على نفسي. محبتي الدائمة، 24 آب 2017.
أمسكت الرواية بصمتٍ مطبق. وأشرت للبائع المقرفص، كم ثمنها؟ نظر إليّ ثم انشغل بترتيب الأشياء الأُخرى فوق البسطة، قال: 35 قرش. هات ربع.
أعطيته خمسة دنانير، وقلت احتفظ بالباقي لك.
مضيت في الشارع المعتم. صفحاتها المنكمشة والمموّجة، مشبعة برائحة الخردة والنفايات الرطبة. الأجواء المسائية كئيبة بصورةٍ تدعو إلى الحزن أكثر من أيّ شيء آخر. انحدرت دمعة من عيني، وأنا أقرأ الإهداء من جديد، وأُقلّب صفحات الرواية. شيء ما تمزّق في داخلي، ليس لأجل كمية الشاعرية والصدق فيه، إنما لأجل أنها روايتي، لقد قدّمتها كهديةٍ متواضعة إلى أحد النقّاد ذات مرّة، إلى "شخصهم الكريم" بطبيعة الحال.