يُثير إعلان السينمائي الأميركي روبرت ريدفورد (1936) نيّته اعتزال التمثيل مزيدًا من الاستعادة المتعلّقة بنتاجه ("العربي الجديد"، 12 أغسطس/ آب 2018). صداماته وسجالاته معروفة: إزاء النظام السياسي الحاكم، وإزاء السياسات الخارجية والداخلية للإدارة الأميركية، وإزاء صناعة السينما بحدّ ذاتها، فهو أحد أبرز الداعمين العمليين للسينما المستقلّة، خصوصًا مع بلورته "مهرجان ساندانس" وتحويله إلى منصّة دولية لتلك السينما، تحتل ـ منذ أعوام عديدة ـ مرتبة متقدّمة في المشهد الدولي.
كما أنه أحد المُشاركين الفعليين في قراءة العلاقة القائمة بين الإعلام/ الصحافة وشؤون البلد، وفي التوغّل ـ ولو بهدوء ومواربة ـ في كواليس المهنة. هذا كافٍ لتبيان شيء من معالم أميركا في أزمنة سياسية واجتماعية وثقافية وحياتية مختلفة، إذْ تمتد أفلامه الخاصّة بهذه القراءة على مساحة 40 عامًا، من فضيحة "ووترغايت" (1974) إلى فضيحة جورج دبليو بوش (1946)، المُعلنة في سبتمبر/ أيلول 2004، رغم أن الحدث نفسه عائدٌ إلى "حرب فيتنام" (تحديدًا بين عامي 1968 و1974).
هذا كلّه من دون التغاضي عن اختياره "حرب أفغانستان" ـ المنبثقة من الاعتداء الإرهابي على برجي "المركز الدولي للتجارة" ومبنى "بنتاغون" في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ـ كأحد أبرز عناوين نقاشه السينمائي حول الإعلام/ الصحافة والإدارة الأميركية، في "أُسود في ملابس حملان"، الذي أخرجه عام 2007، ومثّل فيه إلى جانب ميريل ستريب وتوم كروز.
بالإضافة إلى اختراقه عالم التلفزة، في "لقطة قريبة وشخصية" (1996) لجون آفنت، بأدائه دور وارن جاستس المُشرف على تدريب إعلامية شابّة تُدعى سالي آتواتر (ميشيل بفايفر)، في عملٍ مقتبس من كتاب "الفتاة الذهبية: قصّة جيسيكا سافيتش" (1988) لألانّا ناش (1950)، الصحافية وكاتبة السِيَر الحياتية الأميركية.
غير أن الأبرز في النتاج السينمائي متمثّل في فيلمي الفضيحتين: "كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلن ج. باكولا و"حقيقة" (2015) لجيمس فاندربيلت. الأول مع داستن هوفمان، والثاني مع كايت بلانشيت. الأول مرتكز على كتاب كارل برنشتاين (1944) وبوب وودوورد (1943) بالعنوان نفسه (1974)، وهما صحافيا الفضيحة العاملان في "واشنطن بوست"؛ والثاني مستند إلى "حقيقة وواجب: الصحافة، الرئيس وامتياز السلطة" (2005) لماري مابس (1956)، الصحافية والمنتجة التلفزيونية المتمكّنة من كشف خفايا عائلة بوش وعلاقاتها المتينة والقوية بقادة عسكريين وسياسيين في تكساس.
اقــرأ أيضاً
يُشكّل "كل رجال الرئيس" نموذجًا سينمائيًا لكيفية تحويل حدثٍ واقعي إلى نتاج يُبهر في سرده مسارات العمل على كشف عملية التجسّس على "الحزب الديمقراطي" في مبنى "ووترغايت"، وفي إيهامه باكتفائه بهذا السرد، مع أنه يُمعن في تعرية نظامٍ غير متردّد البتّة في فعل المستحيل لتحطيم خصومه، وفي ارتكاب أي فعلٍ لترتيب شؤونه، في ظلّ خراب أميركا المتنوّع بين تورّط يزداد دموية وعنف وضياع في "حرب فيتنام" (1955 ـ 1975)، وارتباكات إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون (1913 ـ 1994)، والصدامات الحادة بين أركان النظام ومصالح أفراده (1969 ـ 1974).
بالإضافة إلى هذا كلّه، يلتقط آلن ج. باكولا خفايا المهنة وكواليس العمل الصحافي وآليات البحث والاشتغال، في إحدى أعرق الصحف اليومية الأميركية (واشنطن بوست)؛ تمامًا كما في "حقيقة"، الذي ينتقل بروبرت ريدفورد من شخصية بوب وودوورد الصحافي إلى شخصية دان رايثر (1931)، الإعلامي المعروف في برنامج "60 دقيقة" في المحطة التلفزيونية CBS. فالجانب الأجمل متمثّل بمتابعة سينمائية دقيقة لنمط الاشتغال المكلَّف به فريق عمل ماري مابس، والحضور الطاغي لريدفورد الممثّل عامل باعثٌ على التورّط الإيجابي، أكثر فأكثر، في معاينة آليات الإعلام ومتطلباته ومسؤولياته المهنية والأخلاقية والسلوكية، خصوصًا أن التنقيب في سيرة بوش الابن يتزامن والحملة الانتخابية التي يقوم بها بهدف بلوغ البيت الأبيض.
بمعنى آخر، فإن ريدفورد يؤدّي دورين متكاملين: الأول صحافي يجتهد لكشف فضيحة تؤدّي لاستقالة رئيس أميركي وخروجه من البيت الأبيض، والثاني إعلاميّ يُساهم في سعي مهني وأخلاقي وثقافي إلى منع "رئيسٍ ـ مرشّح" من العودة إلى البيت الأبيض (انتخابات 2004)، لتنصّله من "واجب وطني" (علاقة العائلة بقادة عسكريين وسياسيين "تُعفي" بوش الابن من الخدمة العسكرية الإجبارية في فيتنام)، وإنْ "يفشل" السعي، وتتعرّض ماري مابس لحملات جماعة "الرئيس ـ المرشَّح".
لكن الممثل الراغب في اعتزال المهنة يكشف شيئًا من وسامته في علاقته كإعلاميّ بمتدرّبة سيكون داعمًا لها في مهنتها، وعاشقًا لها في حياتها، قبل أن يغيّبه الموت أثناء تغطية مهنية له في إحدى الحروب الخارجية. فـ"لقطة قريبة وشخصية" يمزج تفاصيل المهنة ومخاطرها ومتاهاتها وشللها داخل المؤسّسة، بشيء من الرومانسية التي يعتادها ريدفورد ويبرع في جعلها أجمل من أن تكون مجرّد قصّة حب، وأروع من أن تُصاب بعطب الانفعال العابر.
اقــرأ أيضاً
هذا كلّه مختلفٌ تمامًا عن "أُسود في ملابس حملان" (Lions For Lambs): أستاذ يحاور طلابه في شؤون خاصّة وعامة، على خلفية لقاء بين صحافية (ستريب) وسياسي (كروز)، في ظلّ اضطراب مفضوح لإدارة بوش الابن إزاء تداعيات الاعتداء الإرهابي (2001) وحرب أفغانستان: سيناريو مفتوح على مسالك عديدة يجعلها جو هاتشنغ (صانع المونتاج) متوازية بصرامة، في إيقاع لاهث وضاغط ومليء بحوارات عميقة ومشبعة بأهوال المرحلة وعنف اللحظة وارتباك الحالة.
يُمكن إضافة فيلم آخر على لائحة الاهتمام السينمائي لروبرت ريدفورد بالإعلام/ الصحافة، وإنْ يكن بعيدًا عن المناخات المختلفة لهذه الأفلام. عام 1994، يُخرج ريدفورد "كويز شو"، المستوحى من "تذكُّر أميركا: صوت من الستينيات" (1995)، مذكّرات ريتشارد أن. غوودوين (1931 ـ 2018)، الكاتب المعروف أكثر بصفته مستشار الرئيسين الأميركيين جون كينيدي (1917 ـ 1963) وليندون باينز جونسن (1908 ـ 1973) والسيناتور روبرت كينيدي (1925 ـ 1968)، وأيضًا بكونه محرّر خطاباتهم. القصّة واقعية، تجري وقائعها نهاية خمسينيات القرن الـ20، ومحورها برنامج تلفزيوني يطرح أسئلة عامة على متنافسين ينال الفائز منهم مبلغًا من المال. الفضيحة أن مسؤولي البرنامج لن يتردّدوا في التلاعب بالنتائج والأسئلة والمشاركين بغية تأمين مزيد من الأرباح المالية للبرنامج والمحطة التلفزيونية.
اكتفاء روبرت ريدفورد بإخراج الفيلم لن يُثنيه عن تعرية نظام إعلامي/ تلفزيوني يتلاعب بالناس مروِّجًا أكاذيب على بعضهم بغية ربحٍ مالي، تمامًا كتعريته أحوال أميركا في جوانب عيشها ويومياتها وتاريخها وراهنها.
هذا كلّه من دون التغاضي عن اختياره "حرب أفغانستان" ـ المنبثقة من الاعتداء الإرهابي على برجي "المركز الدولي للتجارة" ومبنى "بنتاغون" في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ـ كأحد أبرز عناوين نقاشه السينمائي حول الإعلام/ الصحافة والإدارة الأميركية، في "أُسود في ملابس حملان"، الذي أخرجه عام 2007، ومثّل فيه إلى جانب ميريل ستريب وتوم كروز.
بالإضافة إلى اختراقه عالم التلفزة، في "لقطة قريبة وشخصية" (1996) لجون آفنت، بأدائه دور وارن جاستس المُشرف على تدريب إعلامية شابّة تُدعى سالي آتواتر (ميشيل بفايفر)، في عملٍ مقتبس من كتاب "الفتاة الذهبية: قصّة جيسيكا سافيتش" (1988) لألانّا ناش (1950)، الصحافية وكاتبة السِيَر الحياتية الأميركية.
غير أن الأبرز في النتاج السينمائي متمثّل في فيلمي الفضيحتين: "كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلن ج. باكولا و"حقيقة" (2015) لجيمس فاندربيلت. الأول مع داستن هوفمان، والثاني مع كايت بلانشيت. الأول مرتكز على كتاب كارل برنشتاين (1944) وبوب وودوورد (1943) بالعنوان نفسه (1974)، وهما صحافيا الفضيحة العاملان في "واشنطن بوست"؛ والثاني مستند إلى "حقيقة وواجب: الصحافة، الرئيس وامتياز السلطة" (2005) لماري مابس (1956)، الصحافية والمنتجة التلفزيونية المتمكّنة من كشف خفايا عائلة بوش وعلاقاتها المتينة والقوية بقادة عسكريين وسياسيين في تكساس.
يُشكّل "كل رجال الرئيس" نموذجًا سينمائيًا لكيفية تحويل حدثٍ واقعي إلى نتاج يُبهر في سرده مسارات العمل على كشف عملية التجسّس على "الحزب الديمقراطي" في مبنى "ووترغايت"، وفي إيهامه باكتفائه بهذا السرد، مع أنه يُمعن في تعرية نظامٍ غير متردّد البتّة في فعل المستحيل لتحطيم خصومه، وفي ارتكاب أي فعلٍ لترتيب شؤونه، في ظلّ خراب أميركا المتنوّع بين تورّط يزداد دموية وعنف وضياع في "حرب فيتنام" (1955 ـ 1975)، وارتباكات إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون (1913 ـ 1994)، والصدامات الحادة بين أركان النظام ومصالح أفراده (1969 ـ 1974).
بالإضافة إلى هذا كلّه، يلتقط آلن ج. باكولا خفايا المهنة وكواليس العمل الصحافي وآليات البحث والاشتغال، في إحدى أعرق الصحف اليومية الأميركية (واشنطن بوست)؛ تمامًا كما في "حقيقة"، الذي ينتقل بروبرت ريدفورد من شخصية بوب وودوورد الصحافي إلى شخصية دان رايثر (1931)، الإعلامي المعروف في برنامج "60 دقيقة" في المحطة التلفزيونية CBS. فالجانب الأجمل متمثّل بمتابعة سينمائية دقيقة لنمط الاشتغال المكلَّف به فريق عمل ماري مابس، والحضور الطاغي لريدفورد الممثّل عامل باعثٌ على التورّط الإيجابي، أكثر فأكثر، في معاينة آليات الإعلام ومتطلباته ومسؤولياته المهنية والأخلاقية والسلوكية، خصوصًا أن التنقيب في سيرة بوش الابن يتزامن والحملة الانتخابية التي يقوم بها بهدف بلوغ البيت الأبيض.
بمعنى آخر، فإن ريدفورد يؤدّي دورين متكاملين: الأول صحافي يجتهد لكشف فضيحة تؤدّي لاستقالة رئيس أميركي وخروجه من البيت الأبيض، والثاني إعلاميّ يُساهم في سعي مهني وأخلاقي وثقافي إلى منع "رئيسٍ ـ مرشّح" من العودة إلى البيت الأبيض (انتخابات 2004)، لتنصّله من "واجب وطني" (علاقة العائلة بقادة عسكريين وسياسيين "تُعفي" بوش الابن من الخدمة العسكرية الإجبارية في فيتنام)، وإنْ "يفشل" السعي، وتتعرّض ماري مابس لحملات جماعة "الرئيس ـ المرشَّح".
لكن الممثل الراغب في اعتزال المهنة يكشف شيئًا من وسامته في علاقته كإعلاميّ بمتدرّبة سيكون داعمًا لها في مهنتها، وعاشقًا لها في حياتها، قبل أن يغيّبه الموت أثناء تغطية مهنية له في إحدى الحروب الخارجية. فـ"لقطة قريبة وشخصية" يمزج تفاصيل المهنة ومخاطرها ومتاهاتها وشللها داخل المؤسّسة، بشيء من الرومانسية التي يعتادها ريدفورد ويبرع في جعلها أجمل من أن تكون مجرّد قصّة حب، وأروع من أن تُصاب بعطب الانفعال العابر.
هذا كلّه مختلفٌ تمامًا عن "أُسود في ملابس حملان" (Lions For Lambs): أستاذ يحاور طلابه في شؤون خاصّة وعامة، على خلفية لقاء بين صحافية (ستريب) وسياسي (كروز)، في ظلّ اضطراب مفضوح لإدارة بوش الابن إزاء تداعيات الاعتداء الإرهابي (2001) وحرب أفغانستان: سيناريو مفتوح على مسالك عديدة يجعلها جو هاتشنغ (صانع المونتاج) متوازية بصرامة، في إيقاع لاهث وضاغط ومليء بحوارات عميقة ومشبعة بأهوال المرحلة وعنف اللحظة وارتباك الحالة.
يُمكن إضافة فيلم آخر على لائحة الاهتمام السينمائي لروبرت ريدفورد بالإعلام/ الصحافة، وإنْ يكن بعيدًا عن المناخات المختلفة لهذه الأفلام. عام 1994، يُخرج ريدفورد "كويز شو"، المستوحى من "تذكُّر أميركا: صوت من الستينيات" (1995)، مذكّرات ريتشارد أن. غوودوين (1931 ـ 2018)، الكاتب المعروف أكثر بصفته مستشار الرئيسين الأميركيين جون كينيدي (1917 ـ 1963) وليندون باينز جونسن (1908 ـ 1973) والسيناتور روبرت كينيدي (1925 ـ 1968)، وأيضًا بكونه محرّر خطاباتهم. القصّة واقعية، تجري وقائعها نهاية خمسينيات القرن الـ20، ومحورها برنامج تلفزيوني يطرح أسئلة عامة على متنافسين ينال الفائز منهم مبلغًا من المال. الفضيحة أن مسؤولي البرنامج لن يتردّدوا في التلاعب بالنتائج والأسئلة والمشاركين بغية تأمين مزيد من الأرباح المالية للبرنامج والمحطة التلفزيونية.
اكتفاء روبرت ريدفورد بإخراج الفيلم لن يُثنيه عن تعرية نظام إعلامي/ تلفزيوني يتلاعب بالناس مروِّجًا أكاذيب على بعضهم بغية ربحٍ مالي، تمامًا كتعريته أحوال أميركا في جوانب عيشها ويومياتها وتاريخها وراهنها.