رياح هولوكوست تعصف بفلسطين
لا يخشى على أحد، من شعوب ودول، في مسار التطبيع الحالي بقدر الخوف على الذاكرة الجماعية التي إن سقطت سقطت معها كل الحقوق البديهية. لا تتعلق المسألة بحتمية تأمين هذه الحقوق فقط بسبب صحّتها، بل مرتبطة بالتحريف المستمرّ للحقائق، على طريقة وزير الدعاية في النظام النازي الألماني؛ جوزيف غوبلز، "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس". وبعد بضعة أجيال، تُصبح الكذبة حقيقةً طاغيةً على الحقيقة الأصلية. نسبية الحقائق ليست موضوع نقاش، بل تزييفها بالكامل هو الخطيئة التاريخية التي ستتلقاها الأجيال المقبلة، وكأنها حقيقة ساطعة.
نُشرت، قبل أيام، دراسة في صحيفة إندبندنت، البريطانية، كشفت جهل ثلثي الشباب الأميركي في موضوع "هولوكوست" (المحرقة التي طاولت اليهود في الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945)، مثيرةً الذعر في صفوف منظمات وشخصيات تعليمية. يخشى هؤلاء من اختفاء هذه الحقيقة، في ظل تنامي قوة المواد المحرّفة والناكرة لـ"هولوكوست" على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى إن نائب الرئيس التنفيذي لـ"مؤتمر المطالبات اليهودية ضد ألمانيا"، غريغ شنايدر، قال لشبكة "أن بي سي نيوز" إن "الدرس الأكثر أهمية أننا لا نستطيع أن نضيّع المزيد من الوقت"، مضيفاً أنه "إذا تركنا هذه الاتجاهات تستمر إلى جيل آخر، فقد تضيع الدروس الحاسمة من هذا الجزء الرهيب من التاريخ". يريد هؤلاء التذكير بصورة دائمة بمحرقةٍ أفضت إلى تغيير مجرى التاريخ، فلو انتصر أدولف هتلر في تلك الحرب، لم كان هناك من يتحدّث عن محرقة أو إبادة، بل كان الحكم النازي، مع غوبلز، من أبرز صنّاع الحقبة الجديدة من تاريخ العالم المعاصر.
فلسطين هكذا. هناك من يصرّ على تجهيل وقائع عدة في اتفاقات التطبيع. لا يمكن القبول بتجاوز حقوق شعب ما فقط لأن "الزمن طال ولا بدّ من نهاية". ما بُني على باطل هو باطل. السلام المُراد تحقيقه في اتفاقات التطبيع لا يمكن الحصول عليه بمعزلٍ عن تلبية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. لا يجب على الأجيال المستقبلية من الشعوب العربية أن تولد وتنمو على وقع حقائق متبدلة، تبدأ من ترداد عبارة "الفلسطينيون لم يقبلوا المطروح عليهم في المفاوضات ولذلك تجاوزهم العالم"، وكأنه تبريرٌ مسبق لنكبة 1948، والحروب اللاحقة. لا يُمكن باسم "مواجهة إيران" تغيير مسار تاريخي في الوعي العربي، يفضي إلى القبول بـ"أيٍّ كان لمواجهتها"، هذا إذا لم يتفق الأميركيون لاحقاً مع الإيرانيين الذين باتوا في أضعف لحظة تاريخية منذ الثورة عام 1979، وحتى أضعف من الحرب مع العراق (1980 ـ 1988)، عكس ما تحاول إظهاره من تمدّد ودعم في اليمن وسورية والعراق ولبنان. الداخل الإيراني هشّ بشكل هائل.
في صلب هذه الحقائق أيضاً، لا يمكن تجاهل أن الإدارة الأميركية مع تبنّيها "صفقة القرن" (خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية)، تعمل على أساس أن الدولة الفلسطينية، إذا وُجدت، لن تكون سوى غيتوهات متناثرة على أرض فلسطين التاريخية، وكأن الهدف تحويلها إلى أكبر مخيم للاجئين في العالم. بالطبع، ستتلاحق الدول المطبّعة مع الإسرائيليين في المرحلة المقبلة، من دون الاكتراث للشعب الفلسطيني، وستلوم هذه الدول القيادات الفلسطينية على "ما فعلته". بالتأكيد، أخطاء القيادات الفلسطينية منذ 1948 كثيرة وفادحة، لكنها ليست مبرّراً لتشريد ملايين البشر باسم هذه الأخطاء، ولا زاوية للاختباء فيها من أجل توقيع الاتفاقيات. يُخطئ من يسوّق أن تسمية الاتفاقيات باتفاقات "أبراهام" تهدف إلى جمع الأديان الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، بل التسمية بحدّ ذاتها مثيرة للقلق، فها هم أحفاد هذه الأديان تقاتلوا وتناحروا وتذابحوا آلاف السنين، وما زالوا. اتفاقات التطبيع ستؤدي إلى الخاتمة نفسها، استمرار الحروب الدينية والقومية، طالما بقي مواطن فلسطيني مشرّداً على أرضه وفي أصقاع العالم لسبب غير اجتماعي، بل عنصري وتمييزي.