لدى صدور كتابه الأول "الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية" عام 1961، دخل رينيه جيرار حقل النقد الأدبي من موقع مختلف، حيث طرح فكرته الأساسية عن الرغبة المحاكاتية.
لم يقدّم المفكر والأنثروبولوجي الفرنسي (1923-2015)، الذي رحل الأربعاء الماضي، هذه الفكرة باعتبارها نسقاً مفهومياً، بل وصفاً بسيطاً للعلاقات الإنسانية؛ إذ اعتبر أنه، ولفهم اشتغال المجتمعات البشرية، لا بد من الانطلاق من الرغبة الإنسانية وطبيعتها المرضية في العمق، فالرغبة مرض، إذ كل واحد يرغب في ما يرغب فيه الآخر.
من هنا، وفقاً لجيرار، يبدأ بُعْد المحاكاة، فرغبتنا لا تنبع منّا ولكن يحرّكها فينا شخص آخر يرغب في الشيء نفسه، ويشكّل وسيطاً ويعتبر نموذجاً.
لهذا، يطرح جيرار مثلّث الرغبة المكوّن من الراغب أو فاعل الرغبة، والمرغوب أو موضوع الرغبة والمنافس. أمّا الأشياء التي يمكن أن تكون موضوع رغبة مشتركة، فهي نوعان: تلك التي تقبل المشاركة وتولِّد بين البشر مشاعر التعاطف، وتلك التي يتمسّك بها الفرد ولا تقبل المشاركة، فتولِّد التنافس وبالتالي الغيرة والحسد والكراهية وتوصل إلى العنف.
وقد حلّل جيرار في ضوء مثلث الرغبة أعمال كبار الروائيين مثل سرفانتيس وستاندال ودوستويفسكي وبروست.
إن الآلية المحاكاتية تعيّن كل المسار الذي يبدأ بالرغبة المحاكاتية، ثم يتواصل بالتنافس المحاكاتي، ويتفاقم بالأزمة المحاكاتية أو التضحوية، وينتهي بالحل عبر كبش الفداء. وهنا يكمن لبّ كتاب جيرار الثاني "العنف والمقدس" (1972)، إذ يرى أن كل المجتمعات البدائية قامت على فكرة "كبش الفداء"، وابتكرت هذه الوسيلة لإيقاف العنف المدمّر.
يذهب جيرار إلى أنه، وبالتضحية بأحد الأفراد، الذي تُلقى عليه مسؤولية ما حدث من عنف وشر، وبالقضاء عليه، يعود السلام والهدوء ويذهب الشر والخراب.
هذا الفعل يشكّل ما يسميه المفكّر بالإبدال الذبائحي الأول، حين يكون الضحية إنساناً ينتمي إلى الجماعة التي تضحّي به، ومن خلال هذه الطقوس نشأت فكرة الألوهة وتمّ وضع المحظورات والمحرّمات التي تنظم الجماعة وتمنع عودة العنف والدمار.
من هنا، ظهرت أيضاً فكرة المقدّس الأسطوري والدين. وهكذا أصبحت نظرية العنف والمقدّس عند جيرار نظرية في أصل الثقافات. ولأن خطر العنف يبقى حاضراً رغم المحظورات، وخشية من عودته بسبب استمرار آلية الرغبة المحاكاتية؛ تقوم الجماعة بإنشاء إبدال ذبائحي ثانٍ يعوّض الضحية الفدائية المنتمية إليها بضحية طقسية من خارجها.
هنا يقع الاختيار على أسرى الحرب والمهمّشين والمنبوذين من مرضى ومعتوهين، ثم نصل إلى المرحلة التي تعوّض الذبيحة الحيوانية كل هذا، ويكون الانتقال إلى البعد الرمزي.
يطوّر جيرار في كتبه اللاحقة هذه النظرية، خصوصاً في "أشياء مخفية منذ تأسيس العالم" (1978) و"كبش الفداء" (1982) و"القربان" (2003) و"من العنف إلى الألوهة" (2004) و"أصول الثقافة" (2004)، وغيرها من العناوين المهمة التي أصبحت مراجع أساسية في ميادين البحث الأنثروبولوجي والديني والنقد الأدبي والأدب المقارن.
في سياق آخر، جعل نقد جيرار لفرويد وللبنيويين والتفكيكيين يقدّم تصوّراً مختلفاً لتاريخ الديني والقدسي. ويفتح آفاقاً للبحث في تشكّل العنف عند الإنسان واستمراره في تمظهرات جديدة، تمتد إلى مختلف النشاطات الإنسانية. وما لاحظه في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، أن تفسيره لنشأة العنف يأخذ، بعد الآن، مظهراً كونياً.
ها إن منطقتنا العربية تعيش اليوم على منطق العنف، أحياناً بذبح الناس ("الحل الذبائحي" بحسب مصطلح جيرار)، لعل من يقدمون على ذلك هم في محاكاة لا يعلمون بها لنظريات المفكر الفرنسي الراحل.
اقرأ أيضاً: ريجيس دوبريه وخطاب التسامح الفوقي