حين أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، انبرى عددٌ من الكتّاب المصريين للرد عليه. وكان أقصى ما توصّل إليه معارضو الكتاب، هو إحالة الكاتب إلى التحقيق. فيما لم تصدر عن أية جهة دينية دعوة لإهدار دمه.
في بداية السبعينيات، كنّا ندرس كتاب طه حسين، في جامعة دمشق، وإلى جواره كتاب لأحد الذين ردّوا عليه، دون أن يتضمّن المقرّر الدراسي في الجامعة أي تفصيل يتعلّق بملابسات القضية، عدا التنازلات التي قدّمها حسين بحذف الفقرات المتَّهمة، وتبديل اسم الكتاب إلى "في الأدب الجاهلي". بينما لم يبدّل خصومه حرفاً.
وعلى الرغم من ثورة الملك فؤاد ضد علي عبد الرازق بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أنكر فيه شرعية الخلافة في الإسلام، جاعلاً من كتابه وسيلة لنقض وتبديد طموحات الملك الذي كان يخطّط لنيل لقب الخليفة، فإنّ كل ما فعلته المؤسّسة الرسمية والدينية في مصر، آنذاك، هو مصادرة الكتاب، فيما امتنع الكاتب عن إعادة طباعته إلى أن مات.
بعدها، أُعيدت طباعة الكتاب أكثر من مرة، مرفقاً بدراسات لنقّاد ومفكّرين معروفين، دون أن يتعرّضوا إلى التهديد بالقتل، أو إهدار الدم. لم يمت الكتاب، ولم يُقتل الكاتب.
كان ذاك هو زمن التأديب، الزمن الذي تدرّبت فيه الدولة العربية على إخراج الكاتب من قوس التفاعل مع المجتمع. واللافت هو أن تكون قد اكتفت بالإجراءات التأديبية، مثل فصل الكاتب من العمل، ومنع الكتاب من التداول، وكان تدريس كتاب "في الأدب الجاهلي" في الجامعة، قد قدّم شهادة مزوّرة عن حالة الدولة والمجتمع العربيين؛ بحيث ظننّا أنهما يخطوان في اتجاه تقبّل الأفكار الجديدة والمخالفة.
لكن ذلك لم يكن صحيحاً البتّة. ذلك أن معظم النظريات التي تنافست للسيطرة على العقل العربي، اتّسمت باللاتسامح ورفض الآخر والمحافظة الفكرية. يتساوى في ذلك الفكر القومي والماركسي والديني.
هل انتهى زمن التأديب؟ لا. ففي القرن الواحد والعشرين، بدأت الجهات الرقابية العربية تميل إلى اتخاذ العقوبات الأشد صرامة وفتكاً؛ إذ لم يعد من المناسب، بالنسبة إليها، أن تكتفي بتأنيب الكاتب، أو سحب الاعتذار منه، أو إرغامه على مغادرة المكان للابتعاد عن الغضب.
كأنما شعرت الدولة العربية والمجتمع العربي أنهما تجاوزا المهلة المحدّدة للصبر على الشغب الفكري والفني والفلسفي العميق الذي قد "يهدّد وجودهما"، فقرّرا تغيير الوجهة. وبدلاً من المحكمة الرسمية التي تحاكم وفق قوانين الدولة، وتضع غرامة مالية مثلاً، نشأت محاكم سرية، تسحب قوانينها من رعاة يزعمون الحفاظ على الأخلاق، أو التماسك الاجتماعي، وتحسب أن الغرامة المالية، أو الحبس المحدود، ما عادا ينفعان في ضبط الحدود، فتقرّر أن انتزاع الروح هي الغرامة القادرة على شفاء غليلها من "التجاوزات". إلى جانب التواطؤ الذي تظهره المحكمة الرسمية التي تقف ضد حرية الفكر.
حبل الأسماء التي حوكمت، أو قُتلت، أو أُهدر دمها من أجل كلمة، أو فقرة، أو صفحة، أو كتاب بات طويلاً، وهو مرشّح للزيادة في ظل الهجوم الهمجي لقوى الظلام.
اقرأ أيضاً: بنادق الماضي ومدافع المستقبل