08 نوفمبر 2024
زيارة البابا مصرَ وتكريس الدكتاتور
تخبرنا التجارب أن سياسات الفاتيكان لم تنفصل، في التاريخ الحديث، وخصوصا في فترة الحرب الباردة، عن سياسات الغرب وحكوماته، فهي تتناغم مع تلك السياسات، وفق سياقٍ هارموني، نادراً ما يتخلله نشازٌ يتعمّدُه قائد الأوركسترا، أو يقترفه غافلاً. وبناءً على ذلك، لا يسعنا النظر إلى زيارة بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، مصر، في 28 أبريل/ نيسان الماضي، سوى باعتبارها جزءاً من توجُّه الغرب نحو تكريس رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، رئيساً شرعياً بعيداً عن المساءلة، كائنا ما كان هدف الزيارة المعلن، متسلحين في هذا الكلام بزيارة السيسي الولايات المتحدة الأميركية أخيرا، وهي الزيارة التي اعتُبِرَت بروتوكولية، أسبغت على نظامه شرعيةً أميركيةً.
فعلى الرغم من أن سجل الحريات في مصر الذي شهد انتهاكاتٍ وصلت إلى حدَّ تصفية المشتبه بمعارضتهم النظام في منازلهم وفي الشارع، معروفٌ لدى الغرب ومنظمات حقوق الإنسان فيه، وعلى الرغم من قضية اغتيال الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، وامتناع النظام المصري عن التعاون الجدي مع الجهات الإيطالية المعنية بالتحقيق بقضيته، كلها أمور تستوجب محاسبة النظام المصري، وقطع العلاقات معه، ووضع أركانه على لائحة منتهكي حقوق الإنسان التي وصلت إلى حد، يمكن معه تصنيفها جرائم ضد الإنسانية. كذلك، وعلى الرغم من حقيقة عدم شرعية تنصيب السيسي رئيساً، كونه مغتصباً السلطة، عبر انقلابه على رئيسٍ منتخبٍ ديمقراطياً، إلا أن زيارات السيسي المتكرّرة عواصم الدول الغربية، وزيارات مسؤولي هذه الدول مصر، ولقاءهم مسؤوليها، توحيان بأن السيسي ونظامه خارج المساءلة، بل إن الاهتمام به يوحي أنه موضع رعايةٍ خاصةٍ لدى حكومات الغرب.
فهل بلعَ البابا فرنسيس الطُّعم الذي رماه السيسي للغرب، والذي يتمثل في إظهار نفسه حامياً للكنائس ومدافعاً عنها في وجه الإسلاميين، فجاءَ كي يشدَّ على يديه؟ مع العلم أن فترة حكم الرئيس السابق، محمد مرسي، المعروف بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، لم تشهد أي اعتداء على أي كنيسةٍ في مصر. أم أن البابا جاء إلى مصر، وزار الكنيستين اللتيْن وقع فيهما التفجير أخيرا، لكي يقول للسيسي أن يتقي الله بالمسيحيين؟ إذ يُعَدُّ نظامه امتداداً لنظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك الذي تردّد أنه متورطٌ بتفجيرات طاولت كنائس مصرية، وكان منها تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، في الساعات الأولى من سنة 2011، عشية الاحتفالات برأس السنة الميلادية، والتي ذاعت وثائق عن تورّط حبيب العادلي، وزير داخلية مبارك، في هذا التفجير، عبر شبكةٍ كان يديرها، مهمتها استهداف الكنائس.
وتأتي زيارة بابا الفاتيكان مصر، ولقاؤه السيسي، بعد زيارة الأخير واشنطن، في 3 أبريل/ نيسان الماضي، ولقائه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي بدا متسامحاً مع جرائم السيسي بحق أبناء شعبه. ففي حين همس ترامب في أذن السيسي، طالباً منه إطلاق سراح الناشطة المصرية، آية حجازي، التي تحمل الجنسية الأميركية، تجاهل عشرات آلاف السجناء السياسيين والمغيبين في أقبية الاعتقال المصرية، وغيرهم الذين يقتلون بسبب معارضتهم النظام المصري. يثير هذا الأمر التساؤل عن حقيقة غض الإدارة الأميركية نظرها عن وضع حقوق الإنسان في مصر، وهي التي تَدَّعي حمل لواء الدفاع عن هذه الحقوق في العالم، ونصّبت نفسها حاميةً لها في وجه أي انتهاكٍ. لا شك أن هذا الأمر يعطي النظام المصري الضوء الأخضر للإيغال في سياسات القمع التي انتهجها منذ انقلابه على الشرعية، في 3 يوليو/ تموز 2013.
ومن الملاحظ أنه، في كل زيارة يقوم بها السيسي للغرب، أو يقوم بها أحد المسؤولين الغربيين لمصر، يعود الإعلام الغربي إلى تناول موضوع الحريات في هذه البلاد، من دون أن يدعو ما يكشفه من حقائق، ويضيء عليه من وقائع، حكومات الغرب إلى اتخاذ أي إجراءٍ لردع منتهكيها، فبعد زيارة السيسي الولايات المتحدة، والتي تلاها إطلاق سراح آية حجازي، ثم استقبال ترامب لها في البيت الأبيض، خرجت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في 25 أبريل/ نيسان الماضي، بمقالٍ يتناول هذا الأمر. وقد بدا المقال من عنوانه رداً على المحتفين بإطلاق سراحها، وعلى من يعدّه انتصاراً للإدارة الأميركية. إذ يقول عنوان المقال: "احتفلوا بإطلاق سراح أميركية واحدة من السجون المصرية، لكن لا تنسوا آلاف المعتقلين"، ويأتي رداً على ترامب ذاته، لأنه قال للصحافيين الذين سألوه عن أهم إنجازاته في المائة اليوم الأولى له
في البيت الأبيض، إن إطلاق سراح حجازي هو أهم إنجاز له، مع العلم أن ضغطه لتحسين وضع الحريات في مصر كان سيعتبر علامةً فارقةً في فترة حكمة كلها. فإن كان يعجز البيت الأبيض عن إطلاق سراح مواطنٍ أميركي محتجزٍ في سجن حليفٍ من حلفائه لن يكون عاجزاً عن إطلاق سراحه من سجنِ نظامٍ، يرى رؤساء تحرير صحفه أن مودَّة ترامب رئيسه هي موضوع فخرٍ وطنيٍّ يجب الاحتفال به، والمبالغة في الإشادة به. فما بالك إن مارس مسؤولو البيت الأبيض الضغط لإطلاق سراح المعتقلين في السجون المصرية، ووقف الملاحقات الأمنية والسماح بحرية التعبير؟
أما زيارة البابا فرنسيس، فيمكن الافتراض أن في تخلُّل كلمته التي ألقاها في أثناء اجتماعه مع المسؤولين المصريين، المطالبة باحترامٍ غير مشروطٍ لحقوق الانسان في مصر، إشارةً إلى الانتهاكات التي يقترفها النظام بحق معارضي انقلابه. ويمكن الافتراض أيضاً أنها رسالةٌ عبَّر بها عما يعتمل في أفئدة حكام الغرب من حزنٍ بسبب تلك الانتهاكات، فجاء كي يبثها في حضرة أركان النظام. لكن إن كان هذا وذاك حقاً من أهداف الزيارة، وأراد أن يكون لزيارته وقع أكثر تأثيراً، كان على البابا زيارة ميدان رابعة العدوية الذي شهد، في 14 أغسطس/ آب 2013، مجزرةً دموية، اقترفتها قوات النظام بحق المعتصمين سلمياً في الميدان، احتجاجاً على انقلابه، وراح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى، غير أنه لم يفعل.
لذلك، وكما زيارة السيسي الدول الغربية، واستقبال زعمائها له، وزيارات المسؤولين الغربيين مصر، كانت على مدى السنوات الأربع من حكم السيسي والعسكر، ضخِّ دمٍ في شرايين هذا النظام، لإعطائه شرعيةً هو فاقدها، كذلك، لا يمكن إلا أن تندرج زيارة البابا مصر ضمن هذا الإطار. وفي هذا المجال، يبقى الغرب ورموزه موضع سخط شعوب المنطقة لدعم الدكتاتوريات الدموية فيها. ويبقى أن ما عجز النظام المصري عن اكتسابه من شرعيةٍ يمنحه إياها شعبه، تحاول أن تسبغها عليه، زياراتٌ وعلاقاتٌ له مع الغرب.
فعلى الرغم من أن سجل الحريات في مصر الذي شهد انتهاكاتٍ وصلت إلى حدَّ تصفية المشتبه بمعارضتهم النظام في منازلهم وفي الشارع، معروفٌ لدى الغرب ومنظمات حقوق الإنسان فيه، وعلى الرغم من قضية اغتيال الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، وامتناع النظام المصري عن التعاون الجدي مع الجهات الإيطالية المعنية بالتحقيق بقضيته، كلها أمور تستوجب محاسبة النظام المصري، وقطع العلاقات معه، ووضع أركانه على لائحة منتهكي حقوق الإنسان التي وصلت إلى حد، يمكن معه تصنيفها جرائم ضد الإنسانية. كذلك، وعلى الرغم من حقيقة عدم شرعية تنصيب السيسي رئيساً، كونه مغتصباً السلطة، عبر انقلابه على رئيسٍ منتخبٍ ديمقراطياً، إلا أن زيارات السيسي المتكرّرة عواصم الدول الغربية، وزيارات مسؤولي هذه الدول مصر، ولقاءهم مسؤوليها، توحيان بأن السيسي ونظامه خارج المساءلة، بل إن الاهتمام به يوحي أنه موضع رعايةٍ خاصةٍ لدى حكومات الغرب.
فهل بلعَ البابا فرنسيس الطُّعم الذي رماه السيسي للغرب، والذي يتمثل في إظهار نفسه حامياً للكنائس ومدافعاً عنها في وجه الإسلاميين، فجاءَ كي يشدَّ على يديه؟ مع العلم أن فترة حكم الرئيس السابق، محمد مرسي، المعروف بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، لم تشهد أي اعتداء على أي كنيسةٍ في مصر. أم أن البابا جاء إلى مصر، وزار الكنيستين اللتيْن وقع فيهما التفجير أخيرا، لكي يقول للسيسي أن يتقي الله بالمسيحيين؟ إذ يُعَدُّ نظامه امتداداً لنظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك الذي تردّد أنه متورطٌ بتفجيرات طاولت كنائس مصرية، وكان منها تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، في الساعات الأولى من سنة 2011، عشية الاحتفالات برأس السنة الميلادية، والتي ذاعت وثائق عن تورّط حبيب العادلي، وزير داخلية مبارك، في هذا التفجير، عبر شبكةٍ كان يديرها، مهمتها استهداف الكنائس.
وتأتي زيارة بابا الفاتيكان مصر، ولقاؤه السيسي، بعد زيارة الأخير واشنطن، في 3 أبريل/ نيسان الماضي، ولقائه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي بدا متسامحاً مع جرائم السيسي بحق أبناء شعبه. ففي حين همس ترامب في أذن السيسي، طالباً منه إطلاق سراح الناشطة المصرية، آية حجازي، التي تحمل الجنسية الأميركية، تجاهل عشرات آلاف السجناء السياسيين والمغيبين في أقبية الاعتقال المصرية، وغيرهم الذين يقتلون بسبب معارضتهم النظام المصري. يثير هذا الأمر التساؤل عن حقيقة غض الإدارة الأميركية نظرها عن وضع حقوق الإنسان في مصر، وهي التي تَدَّعي حمل لواء الدفاع عن هذه الحقوق في العالم، ونصّبت نفسها حاميةً لها في وجه أي انتهاكٍ. لا شك أن هذا الأمر يعطي النظام المصري الضوء الأخضر للإيغال في سياسات القمع التي انتهجها منذ انقلابه على الشرعية، في 3 يوليو/ تموز 2013.
ومن الملاحظ أنه، في كل زيارة يقوم بها السيسي للغرب، أو يقوم بها أحد المسؤولين الغربيين لمصر، يعود الإعلام الغربي إلى تناول موضوع الحريات في هذه البلاد، من دون أن يدعو ما يكشفه من حقائق، ويضيء عليه من وقائع، حكومات الغرب إلى اتخاذ أي إجراءٍ لردع منتهكيها، فبعد زيارة السيسي الولايات المتحدة، والتي تلاها إطلاق سراح آية حجازي، ثم استقبال ترامب لها في البيت الأبيض، خرجت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في 25 أبريل/ نيسان الماضي، بمقالٍ يتناول هذا الأمر. وقد بدا المقال من عنوانه رداً على المحتفين بإطلاق سراحها، وعلى من يعدّه انتصاراً للإدارة الأميركية. إذ يقول عنوان المقال: "احتفلوا بإطلاق سراح أميركية واحدة من السجون المصرية، لكن لا تنسوا آلاف المعتقلين"، ويأتي رداً على ترامب ذاته، لأنه قال للصحافيين الذين سألوه عن أهم إنجازاته في المائة اليوم الأولى له
أما زيارة البابا فرنسيس، فيمكن الافتراض أن في تخلُّل كلمته التي ألقاها في أثناء اجتماعه مع المسؤولين المصريين، المطالبة باحترامٍ غير مشروطٍ لحقوق الانسان في مصر، إشارةً إلى الانتهاكات التي يقترفها النظام بحق معارضي انقلابه. ويمكن الافتراض أيضاً أنها رسالةٌ عبَّر بها عما يعتمل في أفئدة حكام الغرب من حزنٍ بسبب تلك الانتهاكات، فجاء كي يبثها في حضرة أركان النظام. لكن إن كان هذا وذاك حقاً من أهداف الزيارة، وأراد أن يكون لزيارته وقع أكثر تأثيراً، كان على البابا زيارة ميدان رابعة العدوية الذي شهد، في 14 أغسطس/ آب 2013، مجزرةً دموية، اقترفتها قوات النظام بحق المعتصمين سلمياً في الميدان، احتجاجاً على انقلابه، وراح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى، غير أنه لم يفعل.
لذلك، وكما زيارة السيسي الدول الغربية، واستقبال زعمائها له، وزيارات المسؤولين الغربيين مصر، كانت على مدى السنوات الأربع من حكم السيسي والعسكر، ضخِّ دمٍ في شرايين هذا النظام، لإعطائه شرعيةً هو فاقدها، كذلك، لا يمكن إلا أن تندرج زيارة البابا مصر ضمن هذا الإطار. وفي هذا المجال، يبقى الغرب ورموزه موضع سخط شعوب المنطقة لدعم الدكتاتوريات الدموية فيها. ويبقى أن ما عجز النظام المصري عن اكتسابه من شرعيةٍ يمنحه إياها شعبه، تحاول أن تسبغها عليه، زياراتٌ وعلاقاتٌ له مع الغرب.