فجأة شدّ انتباهي إلى فيلم روائي تعرضه شاشة فضائية إحساسٌ بالألفة، لم أعرف اسم الفيلم ولا مخرجه ولا أسماء الممثلين بعد أن فاتتني البداية، إلا أن عالمه الذي انفتح أمامي للوهلة الأولى بدا مألوفاً؛ طرف من حوار بدأ يوقظ شيئاً غافياً في الذاكرة.
بدأت أتابع مشهد ساعي بريد صغير السن، ثم مشهداً بيتياً يسأل فيه طفل أمّه عن أبيه الميت، وأخيه الذي ذهب إلى الحرب، والآخر الذي لم يعد يراه في النهار. وترددت أسماءٌ من قبيل "هومير" و"يوليسيس" و"إيثاكا".
عادت بي الذاكرة، تحت وقع هذه الأسماء وتوالي الصور، إلى الوراء، إلى ما قبل أربعين عاماً أو أكثر، وتولاني شعور بأن هذا الفيلم مأخوذ عن رواية أعرفها جيداً، عن رواية وليم سارويان (1908 - 1981) المسماة "الكوميديا الإنسانية".
اكتشفتُ أن هذا الكاتب الأرمني/ الأميركي لم يغادر ذاكرتي منذ أن تعرفت عليه، والدليل على هذا أن بضعة مشاهد وعبارات أعادته إليّ فوراً، أو أعادتني إلى روايته.
أسرعتُ إلى مكتبتي بحثاً عن كتابه المطبوع عام 1954، والمعادة طباعته في 1959، فوجدته كما أتذكره دائماً، الغلاف نفسه والورق ذاته؛ لا شيء تغير سوى أنني لم أفتحه منذ أن وقع في يدي وقرأته في أيام الصبا.
ومع المتابعة، بعد الألفة كما لو أنني التقيت بصديق عزيز غائب، وجدتُ أن المخرج وكاتب مجريات الأحداث والحوار، لم يحتاجا إلا إلى القليل من الجهد لتحويل الرواية إلى قصة سينمائية، فالحوار جاهز، والمشاهد مرصوفة بضربات فرشاة بسيطة، وما على المخرج إلا إحضار شخصيات الرواية ووضعها في إطار المدينة الأميركية التي تحمل اسم اليونانية إيثاكا، في شوارعها ومكتب تلغرافها ومدرستها وبيوت فقرائها المتنوعي الأصول.
بعبارة مختصرة؛ لم يكن عليه اختراع شيء، لأن سارويان الطيب منحه كل هذا، ومنحه أكثر من هذا تأثيراً؛ منحه نزعته الإنسانية البسيطة التي تتسلل بهدوء وعفوية لترسم عالماً يضج بالحنان والعاطفة والحب والحنين إلى البيت.
زمن الرواية مركّبٌ، فهو زمن الحرب التي تجري بعيداً، ولكن الكاتب اختار أن يشاهدها عبر مصائر سكان "إيثاكا" الذين ذهب أطفالهم إلى الحرب؛ في شخصيات عامل التلغراف العجوز، وساعي البريد، والأم والأخوات، والجنود العائدين، بعضهم يعود فعلاً، وبعضهم يعود برقياً، أي عبر عالم تطبعه الحرب بطوابعها، هي التي تجري في أقصى الأرض.
لم تتنكر الرواية لنفسها بعد أن تحوّلت إلى فيلم، ولا أخذها الفيلم إلى ما هو أبعد من أفقها المفتوح. هل عدت إلى الرواية عبر الفيلم أم أعادني الإثنان إلى نفسي، إلى ذاكرتي؟
يبدو أن عظمة الفن يمكن تلخيصها بالقول إنها تظهر حين يتحوّل العمل الفني إلى جزء من شخصية الإنسان وذاكرته وحياته، فيستيقظ على هذا الجزء منه في أية لحظة من لحظات العمر؛ إنه ما نستدخله في نسيجنا الحيّ.
اقرأ أيضاً: "الأخوات ماكيوكا": أسى سقوط أزهار الكرز