الثنائية الناجحة التي نشأت في السنوات الأخيرة بين الكاتبة مريم نعوم والمخرجة كاملة أبو ذكري تثمر عملاً درامياً شبه متكامل اسمه "سجن النسا".
هذا المسلسل الذي يكاد يكون أفضل عمل درامي عربي خلال الموسم الرمضاني الحالي، معتمداً على كفاءة صنّاعه ومهنيتهم، من دون الركون إلى الأسماء اللامعة أو نجوم الغناء أو الممثّلين المخضرمين أو الميزانيات الضخمة أو استغلال السير الذاتية للمشاهير أو فضائحهم.
عمل جميل بصدقه وتشبّعه بأسرار الحكايات التي يرويها وتفاصيلها، الحكايات التي نرى أنفسنا فيها، وسرعان ما تعيدنا إلى أحداث مرّت بنا أو قربنا، وأردنا من هولها أن نطوي صفحتها، إلا أننا وجدناها مجتمعة في مآلها الأخير: سجن النساء، حيث تدور أغلب أحداث المسلسل، ولا تخرج من بوابة السجن وأسواره إلا لتلملم خيوط وأذيال حكايات السجينات قبل أن تعود، فالحكاية التي تُروى في السجن ولدت خارجه، وجعلت الفارق بين السجن والحرية وهمياً إلى حدّ كبير. وهذه قد تكون "التيمة" التي أسرت صنّاع الفيلم أو صانعاته، اللواتي تحدّثن كثيراً عن أنفسهن وعن "المرأة" من خلال مرايا السجينات ومن حولهن، خلف وأمام القضبان.
يرصد المسلسل حكايات مجتمع عربي (بخصوصية مصرية) ينهار تحت وطأة الفقر والجهل وتجارة الممنوعات والجسد... فالقصص المؤثّرة متوافرة بكثرة حولنا، تصلنا من كلّ صوب، ولكنّ نعوم وأبو ذكري أجادتا التقاطها وإعادة انتاجها وتوظيفها في السياق الدرامي الذي خدم العمل وأرضى الناقد والمشاهد، وأرضى المعايير الإبداعية ذاتها.
الحكاية الرئيسة التي تتمحور حولها حكايات المسلسل الأخرى، هي حكاية غالية (تلعب الدور نيللي كريم، في ما يعدّ استكمالاً لأدائها المذهل في مسلسل "ذات" للثنائي نفسه) غالية ترث وظيفة أمّها كسجّانة في سجن القناطر، وتدفعها الظروف إلى دخول السجن سجينة متهمّة بقتل رجل، قتله زوجها وألصق وصديقتها التهمة بها.
وهنا تبدأ معاناة غالية وليس العكس، إذ تنجب في السجن وتضع طفلها الذي ينتزع منها حين يبلغ الثانية من العمر، ثم يموت في المركز الاجتماعي... في السجن تتضافر عقد أخرى لتشكّل قيداً يشبه قيود السجون بذاتها، الأمّ التي تسمّم نفسها وطفليها وزوجها لينجوا من ظلم الحياة على الأرض، تقول لغالية في السجن اثر وفاة ابنها معزّية، ما معناه أن الحياة هنا سيئة وأنها أرسلت ولديها إلى مكان أفضل وأكثر أمناً، والشابة التي يدفعها العوز إلى الدعارة، وتاجرة الممنوعات، والخادمة التي تحرق سيّدتها (تلعب دور الخادمة الممثلة روبي في دور جديد تتابع فيه اثبات موهبة فذّة بعد "مسلسل من دون ذكر اسماء" للمؤلف وحيد حامد والمخرج تامر محسن العام الماضي).
أدارت أبو ذكري الممثّلين ببراعة، واستطاعت مدعومة بنصّ قوّي وحوار مؤثر وكاميرا ذكيّة أدارتها نانسي عبد الفتاح، أن تفجّر طاقات نيللي كريم ودرّة وروبي وسلوى خطّاب.. وتقدّم مواهب واعدة أبرزها أحمد داود في دور صابر.
حين تضطر غالية إلى العمل كسجّانة، تبوح لخطيبها صابر بشعورها أنّها سجينة، وحين يستهجن كلامها تقول له جملة تلخّص روح العمل وما يتأجّج في قلوب النساء في السجن وخارجه ومن هن في الطريق إليه: "السجن مش سور عالي وباب مقفول عليك، السجن ممكن يكون في هدمة انت مش عايز تلبسها، ناس مش عايز تشوفها، شغلانة مش حاببها، السجن كسرة نفس، وأنا نفسي أكون حرّة، زي الشلال ده"... تأخذ غالية بضع قطرات من مياه الشلال قربها وتذروها، وهكذا يحدث لحياتها التي حلقة بعد اخرى تروح تُذرى وتتبعثر ويجرفها الشلال إلى قدر بائس، تفقد فيه حرّيتها وطفلها والكثير من إنسانيتها.
يتدخّل صابر في مشهد الشلال، محفّزاً غالية على عدم ترك وظيفة السجّانة طمعاً بالشقة التي ستوفّرها لهما ويتزوّجان فيها. لأجل الشقّة والزواج بحبيبها تمضي غالية إلى سجنها المزدوج، الروحي والمادي.
قد لا يكون قصد الكاتبة والمخرجة أنّ المجتمع ورجاله تحديداً، بتزيين فضائل الزواج والستر والاستناد إلى ظلّ راجل، يتعمّدون كسر أحلام النساء بالحرية، ولكن يحلو لنا، نحن المشاهدات، أن نلمس حقيقة هذا الأمر، إلى جانب حقائق أخرى.
قيود كثيرة تغلّل النساء غير تلك التي في السجون، وظلمة حالكة تُغرق قلوبهن، لكنّ ضوء أمل يبرز في آخر النفق، تشعله نساء أخريات من مثيلات مريم وكاملة وروبي ونيللي ونانسي وهالة الزغندي (التي شاركت في كتابة الحوار)... وكثيرات يخطوْنَ بإصرار وشجاعة نحو الحرية البعيدة.